في فلسطين المحتلة دخلت لعبة أميركية - إسرائيلية جديدة على الخط، بعنوان التفاهم على تجميد الاستيطان لفترة زمنية لا تزيد على بضعة أشهر، مع حديث للإعلام الصهيوني عن أن الحل الذي تم التوافق عليه في هذا المجال ليس إلا محاولات للّفّ والدوران يستمر معها الاستيطان، في الوقت الذي اعتبر فيه رئيس حكومة العدوّ بأن القدس هي عاصمة كيانه السيادية، وأنه لا يقبل أية قيود على هذه السيادة، قائلا: «القدس ليست مستوطنة، نحن نبني في القدس منذ ثلاثة آلاف عام».
ومع الإعلان من داخل كيان العدو بأن الصهاينة قاموا ببناء أكثر من ستمئة وحدة استيطانية جديدة منذ بدء التفاوض مع إدارة «أوباما»، والكشف عن خطط لبناء أكبر مستوطنة في القدس الشرقية، تصبح اللعبة أكثر انكشافا، والتي يراد لها أن تنتهي بخاتمة مسرحية يلتقي فيها رئيس السلطة الفلسطينية ورئيس حكومة العدو مع الرئيس الأميركي، في قمة ثلاثية تعلن بدء عملية التفاوض، ولكن التفاوض على أيّ شيء؟!
إن الذي يجري هو عملية ابتلاع وضم متواصلة بشكل يومي، حتى إذا دقّت ساعة الحقيقة، وجد المفاوض الفلسطيني أنّ الأرض أصبحت في متناول العدوّ، وأن التفاوض يجري على واقعٍ لا تتّصل فيه الأراضي بعضها ببعض، فكيف بدولة؟! وأَدرَك ذلك المفاوِض الفلسطيني حينها أن مَن لا يملك من الأوراق شيئا ويرفض أن يلوّح حتى بلافتة المقاومة، لا يمكن أن يحصل على شيء، اللهم إلا تسهيله حركة اللعبة، وتحسين شروط العدوّ في دفع العرب زرافاتٍ ووحدانا إلى فخ التطبيع الذي تُعلن فيه وفاة القضية الفلسطينية، ويبدأ عندها الزحف الإسرائيلي إلى قلب العالم العربي والإسلامي.
إننا نريد للعرب وللمسلمين الذين مرّت عليهم الذكرى الأربعين لإحراق المسجد الأقصى مرور الكرام، أن ينهضوا من سباتهم؛ لأن الذي يجري لا يمثل إنهاء للقضية الفلسطينية فحسب، بل هو المقدّمة لاجتياح سياسي وأمني وإعلامي لبقية معاقلهم ومواقعهم، وعندما تسقط فلسطين سيجد الجميع أن الحصون الأخرى ستهوي تباعا، وسط هذه المعمعة التي يتقاتل فيها إخوة الدين والعروبة والسلاح تحت عناوين زائفة، مذهبية وسياسية وحزبية وطائفية، فيما وحش الاحتلال المكشوف والمستتر يزحف إليهم من كل حدب وصوب.
إننا أمام هذا الواقع الذي تؤجَّل فيه المشاريع الحوارية الحقيقية داخل الأمة، نرى أن العدوّ لا يؤجِّل مشاريعه الاستيطانية وكذلك عملياته العدوانية في قطاع غزة، فيقتل ويجرح المزيد في غاراته التي يشنّها على القطاع بين وقت وآخر، ولا يتوانى عن استخدام وبيع أعضاء الشهداء الفلسطينيين، في عملية انتهاك وحشي لأجساد الشهداء تشير إلى ذهنية حاقدة ومستهينة بكل ما يتصل بحقوق الإنسان العربي وكرامته.
وإلى جانب المأساة الفلسطينية، تبرز المأساة العراقية من خلال مجموعات امتهنت عملية القتل الجماعي، والجريمة المنظَّمة، فعملت على ملاحقة الأبرياء في الشوارع بأطنان المتفجرات التي جعلت الساحة العراقية تلتهب نارا في دماء الفقراء والعمّال والموظفين، كما جعلت الساحة السياسية تلتهب في كل هذا الاهتزاز في العلاقات السياسية بين هذه الدولة وتلك، وسط حديث عن لعبة تشترك فيها جهات استخبارية ومحاور متعددة، تعمل ليل نهار حتى يبقى العراق في دائرة الاهتزاز الأمني الذي يطل على مراحل من الاهتزاز السياسي، مما يفسح المجال أكثر للمحتل ليواصل احتلاله وجرائمه، ويتطلّع إلى مراحل أخرى يحقق فيها أطماعه في أرض الرافدين وجوارها.
إننا أمام التطورات الأخيرة وما رافقها من تعقيد في العلاقات بين العراق وبعض الدول العربية، ندعو إلى إعادة صوغ هذه العلاقات على أسس من الصراحة التامة، والانفتاح المتبادل، وبروح أخوية تعيد الدفء لهذه العلاقات بما يضمن احترام أمن الشعب العراقي ومصلحة الأمة ومستقبلها.
أما لبنان، فلا يزال يعيش في إطار مراوحة سياسية تتبادل فيها الأطراف المعنية الاتهامات في مسألة تشكيل الحكومة، حتى إذا حصلت عملية التأليف هلّل الجميع وكبّروا لهذا الانجاز، حيثُ من المضحك المبكي أن أصبحت مسألة تأليف الحكومات من الانجازات التي تُرصد لدى النادي السياسي اللبناني، وليست جزءا من حركة المسئوليّة العالية التي ينبغي أن يعيشها لدى المسئولين.
إننا نخشى من أن يكون الهدف من وراء كل هذه التجاذبات السياسية، وهذه التوتيرات المقصودة، تمديد الوضع الحالي، وإضافة شيء من الاهتزاز في الساحة الداخلية لإيجاد نوع من الصلة بين الأوضاع الداخلية ومواعيد سياسية خارجية، بما يدفع المسألة نحو مزيد من التأزم والتعقيد.
إننا أمام هذا الواقع ندعو جميع المسئولين إلى تحمّل مسئولياتهم، وعدم وضع العصي في دواليب الحل لحسابات ذاتية أو حزبية أو خارجية، لأن الناس لا يُمكن أن تصبر على آلامها المعيشية ومشاكلها الحياتية إلى ما لا نهاية، وأصبح الكثيرون يخشون أن يكون التأجيل المستمر يمثّل ترحيلا للحل وتحضيرا لفتنة يراد للبنانيين أن يكونوا وقودا لها لحساب جهات دولية وإقليمية لا تضمر الخير للبلد، ولا تتطلّع إليه إلا بعيون الحقد والضغينة والفرقة.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2549 - الجمعة 28 أغسطس 2009م الموافق 07 رمضان 1430هـ