التوقيت والمكان والموضوع في حديث موشيه يعلون يبدو مُعضِّدا لما كان يُقال. فرغم أن التصريحات بثّتها قناة تجاريّة صهيونية (القناة الثانية) إلاّ أنها حَظِيَت باهتمام كبير، وخصوصا أنه اعترف (خلالها) بدور الجيش الصهيوني المحوري في تدمير عمليات السلام المتكررة.
فالجنرال موشيه يعلون هو نائب رئيس الحكومة الصهيونية ووزير الشئون الاستراتيجية، وهو حليف قريب جدا لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. وكان في السابق رئيسا لهيئة أركان الجيش لمدة عامين.
يعلون قال في محضر لمتطرفّي حزب الليكود «عندما كان القادة السياسيون في (الكيان الصهيوني) يأتون بحمامة السلام علينا نحن الجنرالات أن ننظف الأرض من أوساخها». هذا ما كان يقوله في اجتماعات أمنيّة/ عسكرية خاصة.
الغريب أن يعلون لم يَقُل ذلك فحسب، بل شَتَمَ قضاة المحكمة العليا الصهيونية وحركة «سلام الآن» والنخب السياسية وتُجّار المجتمع الصهيوني لأنهم حسب قوله «يدمرون المجتمع (الصهيوني) ويقوّضون وجوده على أرض إسرائيل».
هذا الأمر ليس بجديد داخل منظومة الحكم الصهيونية وكذا مجتمعه المصنوع عنوة. فرغم أن حضور الجيش في السياسة الداخليّة الصلبة قد شاهدناه في العالم العربي لدى الأنظمة الفلاحيّة، إلاّ أننا بتنا نراه أيضا داخل الدول الحرّة كما تُسمِّي تل أبيب نفسها.
هذا مردّه (حتما) إلى طبيعة المجتمع الصهيوني الذي تجمعه الديانة اليهودية والعقيدة الصهيونية، وتُفرّقه إثنيات وأعراق ديمغرافيّة ينتمي بعضها إلى الشرق والآخر إلى الغرب (اشكيناز/ سفارديم).
ولأن أفراد هذا الجيش هم ذاتهم أفراد المجتمع المصنوع بسبب التجنيد الإجباري المتطرف، فقد أصبح (الجيش) أكثر قُربا من مكوّنات المجتمع المنقسم أصلا، لكنه أيضا أصبح مؤسسة دفاعيّة مختصّة وإنمائيّة في الوقت نفسه، تُنافس جميع المناشط المدنية الأخرى داخل النظام.
فالمجتمع الصهيوني يضخّ خمسة في المئة من أبنائه باتجاه الجيش (بدلا من نصف في المئة كما هو مُتّبع عالميا). بمعنى أن الكيان الصهيوني يمتلك جيشا مُضاعفا عشر مرات (باحتساب عدد السكان) مقارنة مع أية دولة أخرى حسب دراسة أنطوان شلحت.
لقد أدّت جذور الجندي الصهيوني (الدينية/ الإثنية) إلى إحالة شخصيته إلى الانفصام. فما بين الحدود الدينية القاهرة التي يُبتَنَى عليها الكيان الصهيوني حتى في قوميته (شرط يهودية الدولة)، وما بين انتساب أفراد جيش الدفاع إلى أماكن مُتعدّدة من دول العالم وأقاليمه، اهتزّت العلاقة بين قوميّة جغرافيّة وأخرى دينية.
لكن في الوقت نفسه، جعلته مؤسسة مدعومة من المجتمع وله امتداد فيه، وبالتالي تغوّله إلى قيمة مدعومة سياسيا وتنمويّا تُضاف إلى قيمته العسكرية، وهو ما جعله يُزاحم (ويتسيّد) حدود وآليات الدولة وأنشطتها السياسية والمدنيّة.
الأكثر من ذلك أن السّواد الأعظم من جنرالات الجيش الصهيوني التاريخيين خَلَعُوا بزّاتهم العسكريّة وتقلّدوا مناصب سياسية وحتى ثقافيّة وأكاديمية داخل الكيان. بل إن الجماعات الإرهابيّة التي كانت تُقاتل الجيش البريطاني في الأربعينيات كالبلماح هي من أسّست الجيش الرسمي، وأنتجت عددا من الحكومات المتعاقبة.
اليوم مؤسسة الجيش في الكيان الصهيوني هي صاحبة الكلمة الفصل في قضايا الداخل والخارج رغم قرار الكنيست في مارس/ آذار 1976 بخضوعها للحكومة. ولطالما تصرّف الجيش بمعزل عن قرارات السياسيين بمن فيهم رئيس الحكومة.
فالعقيدة العسكريّة الصهيونية تفرض أن يكتشف المُجنّد نفسه ويقتنع بأن موقفه اللحظي خلال المعركة (فضلا عن الاستراتيجي) هو من يُقدَّم لا موقف لسياسي يعيش حياة مُترَفة وسط تل أبيب ومع حمايته الشخصية.
لذا فإننا نرى أن حجم الإفاضة الماديّة والروحية على منتسبي الجيش الصهيوني هي بلا حدود. وبالتالي فإن قال اليوم موشيه يعلون ما قال فإنه لم يقل إلاّ ما ينسجم والمنتظم التاريخي للجيش الصهيوني.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2547 - الأربعاء 26 أغسطس 2009م الموافق 05 رمضان 1430هـ