انقضى الشهر الثاني على تكليف النائب سعد الحريري بتشكيل الحكومة اللبنانية. حتى الآن لايزال الرئيس المكلف يواصل اتصالاته واستشاراته من دون نتيجة. فالخلافات على تركيبة الوزارة تدور حول الأرقام ونسبة توزيع الحصص بين الطوائف والمذاهب والتكتلات وما تمثله من شرائح سياسية منضوية تحت 8 و14 آذار.
الانقسامات الأهلية اللبنانية تلعب دورها في تعطيل تأليف الحكومة ولكنها ليست العامل الوحيد الذي يساهم في تأخير عملية التوليف السياسية. فهناك إلى جانب الداخل اللبناني مجموعة عوامل اقليمية ودولية تضغط على بلاد الأرز وتمنع عنها التمتع بحال من الاستقرار يضمن الحد الأدنى من التماسك المطلوب للإعلان عن التوليفة الوزارية.
العوامل الخارجية القريبة والبعيدة مهمة ولكنها لا تستطيع أن تلعب دورها من دون وجود قوى محلية تعتمد عليها لتعطيل تشكيل الحكومة. النائب ميشال عون يستخدم من جانبه «الورقة المسيحية» لرفع سقف مطالبه معتبرا أن الطرف الآخر بحاجة إليه لتأمين الغطاء الماروني للحكومة. القوى المسيحية في 14 آذار تعتبر أن نتائج الانتخابات النيابية جاءت لمصلحتها وهي تمثل غالبية في الشارع والمقاعد وبالتالي لابد ان تكون النسبة الترجيحية تتناسب مع حجمها حتى تكون الحكومة متوازنة في التعبير عن الصوت المسيحي.
هذا جانب من الصورة. الجانب الآخر يتمثل في تجاذبات القوى السياسية في الطرف المسلم الذي يشكل 50 في المئة من مقاعد المجلس النيابي. فالشارع المسلم كانت تتوزعه مراكز قوى تنقسم سياسيا على تحالفين. والآن أصبح ينتشر على ثلاثة خطوط بعد انسحاب كتلة وليد جنبلاط من تجمع 14 آذار الأمر الذي أثر سلبا على الغالبية النيابية ووضعها في موقع أضعف قدرتها على التفاوض.
كل هذه التموضعات التي طرأت على التحالفات الأهلية (الطائفية والمذهبية والمناطقية) ساهمت في تعديل زوايا الصورة. فهل عون يمثل الغالبية المارونية أم القوى المسيحية في 14 آذار؟ هل جنبلاط انسحب من 14 ودخل في إطار 8 أم أنه في منزلة بين المنزلتين لا يعرف ماذا يريد ولا يريد ما يعرفه؟
الأجوبة ليست صعبة. فالجنرال يمثل أقلية نسبية في الشارع وعدد المقاعد المسيحية باعتبار أن نتائج الانتخابات أعطت 27 مقعدا لجماعة 8 و37 لجماعة 14. والتمثيل النسبي الذي يطالب به عون لا يأتي لمصلحته ما يعني أن الحصة المطروحة لا تعكس فعلا حجم التوازن بين الطرفين. جنبلاط بدوره غير واضح في تصوراته الجديدة سواء من جانب انسحابه من 14 أو عدم انسحابه من الأكثرية النيابية. وعملية الفصل التي يطرحها جنبلاط بين الانسحاب السياسي من 14 والارتباط النيابي بها يثير علامات استفهام بشأن معنى هذه الخطوة المبهمة في إشاراتها ورموزها.
مكابرة الجنرال وغموض خطوة جنبلاط تساهمان في إرباك خطة تشكيل الحكومة وذلك لاعتبارات أهلية تنص عليها صيغة التوازنات الائتلافية الطائفية والمذهبية في لبنان. النظام يضمن الحصص في إطار الثوابت الدستورية إذ لكل طائفة مجموعة مقاعد لا يمكن تجاهلها أو تجاوزها. المشكلة تبدأ في توزيع المقاعد على مراكز القوى وحصة كل طرف سياسي من «الكوتا».
عون مثلاُ يريد نسبة لا توافق عليها الكتائب والقوات اللبنانية لأنها تنتمي إلى كتلة سياسية حصدت غالبية في الشارع المسيحي. وجنبلاط بعد انقلابه على أصحابه ورفاقه بات في موقع رمادي لا يعرف لونه بسبب إصراره على مقولة الانسحاب السياسي من 14 والتضامن النيابي (الأكثرية) معها. مثلا هل يعطى جنبلاط مقاعد وزارية من حصة 14 أم من حصة 8 أو بين المنزلتين؟ الجواب لا يزال في طور التفاوض باعتبار أن كتلة جنبلاط تتألف من 11 مقعدا وهي تعطي 14 آذار الغالبية النيابية ويمكن أن تتناقص الأكثرية نسبيا في حال إنحازت كتلته إلى 8 آذار.
كل هذه التعرجات المحلية تساهم في تعطيل المسار اللبناني لتأليف الوزارة. إلا أن هناك مسارات إقليمية طرأت على المنطقة في الفترة الأخيرة أدت بدورها إلى تأخير إعلان التشكيلة بسبب تراجع الزخم السياسي الدولي بعد أن اصطدمت إدارة باراك أوباما بجملة من العقبات والحواجز. والجمود الذي ظهر في الأفق الأميركي ساهم من جانبه في الحد من موجة التفاؤل.
العامل الاقليمي الأبرز يتمثل في الإطارين الإسرائيلي والإيراني. فمن ناحية تل ابيب برزت حكومة الثنائي نتنياهو - ليبرمان التي وضعت مجموعة شروط إضافية للتفاوض ما عطل إمكانات استمرار الحوار مع السلطة الفلسطينية. ومن ناحية طهران برزت فوضى الانتخابات الرئاسية ما أدى إلى تجميد كل دعوات الحوار المباشر وسياسة اليد الممدودة بانتظار أن تنجلي الصورة الضبابية عن المشهد الإيراني.
إلى العامل الاقليمي المستجد بدأت المواقف الدولية تنكشف عن نقاط مبهمة في سياسة التعامل مع دمشق بعد «شهور عسل» بين سورية وأوروبا. فالاتحاد الأوروبي أبدى استعداده للانفتاح ضمن شروط مرهونة بالسلوك السوري وعلاقات دمشق بدول الجوار ومدى تأثيرها على الملفين العراقي والفلسطيني.
كل هذه المسارات تؤثر من بعيد أو قريب على الملف اللبناني لكونه يتضمن مجموعة أوراق ممتدة إقليميا. فالعراق شهدت ساحته سخونة غير معهودة أعادت الذاكرة إلى اسوأ المراحل التي مر بها ويرجح أن تستمر حالات العنف في بلاد الرافدين وصولا إلى الانتهاء من موعد الانتخابات النيابية في مطلع السنة الميلادية المقبلة.
فلسطين تنتظر منذ فترة صدور التصورات الأميركية بشأن جدول أعمال التفاوض وهذا ما أدى إلى تجميد الدبلوماسية المصرية وتأخير التوقيع على التفاهمات الثنائية بين «حماس» و«فتح» في القاهرة. وإيران تستعد إلى مواجهة استحقاقات تتصل بالملف النووي وتلك المواعيد التي حددها الاتحاد الأوروبي بالتفاهم مع الولايات المتحدة. وسورية التي تتوقع المزيد من الانفتاح عليها من الغرب لا تريد أن تتورط في تفاهمات قبل أن تحصل على بدائل ملموسة تعوض خسائرها المحتملة في بعض الملفات.
مجموع هذه العوامل الاقليمية والدولية مضافة إلى العامل المحلي ساهمت في تأخير تشكيل الحكومة اللبنانية. فالكل ينتظر. أميركا تراقب تطورات الأزمة الإيرانية حتى تعلن سياستها الواضحة في الفترة المقبلة. والعراق قلق من اقتراب موعد الانتخابات وتلك النتائج التي ستحسم خياراته السياسية في السنوات المقبلة. وسورية مترددة بين الانفتاح على وعود اميركية - أوروبية تحتاج إلى وقت لتتضح معالمها وبين التمسك بسياسة تصطدم بضغوط دولية. والسلطة الفلسطينية تواجه حكومة متطرفة في شروطها وهي لا تستطيع التجاوب معها قبل الاطلاع على خطة أوباما بشأن المفاوضات والتسوية.
مسألة تأليف الحكومة اللبنانية ليست سهلة. فهي تشمل من جانب على معطيات محلية تتصل بنظام الحصص وتوزيع المقاعد على مراكز القوى، وهي من جانب آخر تنتظر معطيات إقليمية تتدخل لرسم خريطة طريق تكون منسجمة مع توازنات المحاور والفضاءات الدولية.
انقضى الشهر الثاني على التكليف واحتمال تأخر تشكيل الحكومة بات يطغى على الصورة التذكارية للوزراء. والصورة المحلية ليست دائما صناعة لبنانية حتى لو ظهرت الساحة خالية من التجاذبات الأهلية. فالعناصر مضمرة وهي تتحرك وراء الكواليس بانتظار ما ستحمله السيناريوهات من توقعات واحتمالات مرهونة بمواعيد واستحقاقات إقليمية ودولية.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2547 - الأربعاء 26 أغسطس 2009م الموافق 05 رمضان 1430هـ