يعتبر التعدد العرقي واللغوي والديني والثقافي... من الظواهر الإنسانية المعهودة التي تتقاسمها العديد من المجتمعات (وجود الأكراد في سورية والعراق وتركيا، النوبة في السودان ومصر، الطوارق في مالي والنيجر؛ الباسك في إسبانيا، الكروات والسلوفينيين... في يوغوسلافيا؛ السيخ والأساميين والتيبواس في الهند، والبربر في شمال إفريقيا والسودان وجزر الكناري وسردينيا وصقلية ومالطة والأندلس)، ففي القارة الإفريقية التي يزيد عدد الدول فيها عن الخمسين؛ تتعايش نحو 2200 إثنية متميزة بلغاتها وثقافتها، وفي آسيا التي تحتضن أكثر من ثلاثة مليارات من البشر؛ يوجد أكثر من 2000 إثنية متباينة في اللغة والدين والعادات والتقاليد؛ وعلى المستوى العالمي هناك نحو 8000 إثنية و6700 لغة.
وقد أكدت التجارب والممارسات الميدانية، أن درجة انصهار وتعايش مختلف هذه الأجناس داخل المجتمع الواحد؛ تظل في جانب مهم منها متوقفة على طبيعة التعامل الذي تسلكه السلطات السياسية والاجتماعية نحوها؛ فالنأي عن العدالة والحرية والديمقراطية يحرض مختلف المكونات الاجتماعية على الاختباء خلف الخصوصية والميل نحو الانغلاق عن المحيط العام؛ والبحث عن مشاريع بديلة خاصة بها؛ ما يفضي إلى مظاهر من الصراع والاضطراب والتعصب والانقسام؛ فيما التشبث بهذه القيم والمبادئ يكرس الوحدة الوطنية ويدفع نحو التعايش والاندماج.
إن التنوع بشتى مظاهره (الثقافية، الإثنية، الدينية، اللغوية...) يحتمل وجهين: الأول؛ إيجابي وذلك بالنظر للدور المهم الذي يمكن للتعدد أن يسهم به في تحصين وتقوية كيان الدولة؛ إذا كانت تستوعب أهمية هذه التعددية وتكرسها ميدانيا، والثاني؛ سلبي لما يمكن أن يشكله من خطر على استقرار الدولة ووحدتها، وبخاصة داخل الدول التي تتميز فيها مقاربة هذا الملف بالعقم والانحراف.
فالحيف والتهميش والإقصاء الذي يمكن أن يطال أحد مكونات المجتمع؛ سيؤدي حتما إلى تدهور التضامن الداخلي وتهديد وحدة المجتمع؛ ويتسبب في بروز أزمات اجتماعية وسياسية، ويستثمر أيضا من قبل بعض القوى الخارجية المترصدة، في شكل مؤامرات قد تعصف بالاستقرار الداخلي للدول الضعيفة (برز ذلك بشكل جلي خلال أحداث أبريل/ نيسان 2001 بالجزائر عندما اعتبر وزير الخارجية الفرنسي آنذاك «أن فرنسا لا يمكنها أن تظل صامتة بصدد ما يقع من قمع وعنف في الجزائر»).
فالممارسة الديمقراطية واعتماد العدالة بأبعادها السياسية والاجتماعية والثقافية...؛ تشكل مدخلا كفيلا بتدبير المشاكل والاختلافات، وضمانة للتعايش المجتمعي والوحدة الوطنية؛ وتحصين المجتمع ضد أية مؤامرات خارجية.
وإذا كانت بعض الدول قد استطاعت أن توفق إلى حد كبير في تدبير التعددية الثقافية واللغوية والدينية والعرقية داخل مجتمعاتها؛ مثلما هو الشأن بالنسبة إلى بلجيكا وفرنسا؛ فإن دولا أخرى شهدت انفجارا للصراعات العرقية والدينية، بالشكل الذي عكس قصورا واضحا في تدبير هذا الملف (الاتحاد اليوغوسلافي السابق، رواندا، الصومال؛ العراق... مثلا)، فيما تحاول دول أخرى إيجاد حلول لهذه المسألة من خلال تدابير وإجراءات تتباين في مظاهرها وفاعليتها من منطقة إلى أخرى؛ وبخاصة في ظل التحولات المتسارعة التي شهدتها الساحة الدولية في العقود الأخيرة؛ فقد انتقلت مجموعة من القضايا الداخلية إلى دائرة الاهتمام الدولي (الديمقراطية؛ حقوق الإنسان، تلوث البيئة، الهجرة...).
وتعتبر المنطقة العربية التي تختزن ضمن مكوناتها الاجتماعية أقليات عرقية وإثنية ودينية مختلفة (في لبنان، ودول المغرب العربي، والعراق، والسودان...) ضمن أكثر الأقطار حاجة إلى استثمار هذا التعدد لتقوية كيان المجتمع والدولة؛ عبر مقاربة أكثر عدالة وديمقراطية.
إن هذه القضايا وبعد أن ظلت لسنوات طويلة محكومة بطوق أمني صارم وخضعت في العديد من الأحيان لتدابير صارمة باعتبارها شأنا سياديا داخليا يرتبط بقضايا «حساسة»، استأثرت باهتمام دولي كبير في العقدين الأخيرين؛ نتيجة التحولات الكبرى التي شهدها العالم (انهيار الاتحاد السوفياتي الذي فرض سياسة صارمة في مواجهة الأقليات والإثنيات...)؛ وما تلاها من تدويل لقضايا حقوق الإنسان وحرياته؛ حيث أصبحت تحتل مكانة بارزة ضمن خطاب مختلف الفاعلين الدوليين من منظمات حكومية وغير حكومية ودول ورأي عام دولي إلى جانب قضايا حيوية أخرى؛ ظلت منسية ومهملة بفعل ظروف الحرب الباردة.
وقد كان لهذه التحولات أثر ملحوظ في تزايد المطالب والنضالات الأمازيغية بشمال إفريقيا؛ كما أنها وإلى جانب الأحداث المتتالية التي شهدتها الجزائر في منطقة «القبايل»؛ وتزايد الاهتمام الحقوقي والإعلامي والثقافي بالمسألة؛ أثرت بشكل ملموس في تعاطي الدولة المغربية مع هذا الملف الحيوي بشكل متدرج.
هكذا، وضمن التفاعل مع هذه المتغيرات وما تفرضه من تحديات؛ وخشية من تطور الأمور إلى أشكال من الانفلات وعدم التوقع، تبنى المغرب مجموعة من المبادرات والقرارات التي توخى من خلالها إيجاد مقاربات كفيلة بمعالجة التعدد اللغوي والثقافي الذي اعتراه نوع من الإهمال في السنوات الماضية.
وقد بدأت محاولات رد الاعتبار للثقافة الأمازيغية داخل المشهد الإعلامي المغربي المسموع منه والمرئي والمقروء؛ واعتمد حرف تيفيناغ وبدأ تدريس الأمازيغية في بعض الأقسام التعليمية الأساسية؛ ثم أنشئ المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية سنة 2001؛ الذي حددت مهماته في: «صياغة وإعداد ومتابعة عملية إدماج الأمازيغية في نظام التعليم والقيام بمهمات اقتراح السياسات الملائمة التي من شأنها تعزيز مكانة الأمازيغية في الفضاء الاجتماعي والثقافي والإعلامي الوطني وفي الشأن المحلي والجهوي»؛ إذ أصدر العديد من الكتب والمنشورات؛ وترجم أخرى إلى الأمازيغية.
وقد رافق هذه المبادرات بروز مواقف متباينة داخل الأوساط الأمازيغية؛ بين من ثمَّن هذه الخطوات واعتبرها منطلقا لتأهيل شامل للأمازيغية؛ ومن رفض المقاربة الرسمية باعتبارها لم تكن تتويجا لحوار وطني واسع، وأكد أن الاهتمام الحقيقي بالمسألة يبدأ بدسترتها (التأكيد عليها في الدستور) من خلال الإشارة إلى مسألة تعدد الهوية واعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب اللغة العربية، كسبيل وحيد يكفل ويضمن إدماجها بشكل حقيقي في حياة المجتمع ويحصنها قانونيا.
كما اعتبر بعض المعارضين أن المقاربة الرسمية جاءت محكومة بهاجس أمني؛ وتوخت في العديد من جوانبها وقف التطور الذي تشهده القضية، مع حصرها في الجانب الثقافي؛ واحتواء الجزء السياسي منها.
وعلى العموم، يمكن القول، إن التحولات السياسية التي شهدها المغرب في العقود الأخيرة، انعكست بشكل إيجابي وملموس على المسألة الأمازيغية، فالمجهودات الملحوظة التي بذلت خلال السنوات الأخيرة في سبيل رد الاعتبار للثقافة الأمازيغية وإدماجها؛ باعتبارها جزءا من التراث المغربي ومكونا أساسيا من ذاكرة المغاربة وثقافتهم، تعد عملا إيجابيا على طريق تحصين البلاد ضد أي مظهر من مظاهر عدم الاستقرار، وتقوية الوحدة الوطنية وتعزيز الهوية.
كما أن الحركة الأمازيغية التي استفادت من مختلف التحولات السياسية المحلية أو تلك التي أفرزها المحيط الدولي؛ راكمت تجربة مهمة وطورت عملها ووسعت من قاعدتها الشعبية؛ بالشكل الذي أسهم في تحقيق مجموعة من المطالب والإنجازات.
وإذا كانت مبادرات الدولة بحاجة إلى أن تظل مفتوحة باستمرار نحو مزيد من المقاربة الديمقراطية الكفيلة وحدها باستثمار التنوع المجتمعي لتعزيز قوة ووحدة المجتمع، فإن هناك مجموعة من التحديات تطرح نفسها أمام الحركة الأمازيغية، تفرض تحديد أولوياتها، والاستفادة من بعض أخطائها والخروج من مأزق الصراع والتشتت الداخليين، وتطوير بعض خطاباتها لبلورة مزيد من المكتسبات على طريق تمتين وحدة المجتمع.
*أستاذ الحياة السياسية؛ كلية الحقوق - مراكش، والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2546 - الثلثاء 25 أغسطس 2009م الموافق 04 رمضان 1430هـ