في منتصف الثمانينيات، وكما هو الحال في أية جلسة تحتضن المثقفين والسياسيين العرب، يضع الجميع أحوال الأمة العربية على طاولة النقاش، وغالبا ما ينتهي ذلك النقاش إلى ما يشبه اللطم والندب على النهاية المأساوية التي آلت إليها أمور الأمة.
في إحدى تلك الجلسات انبرى أحد الحاضرين، ويبدو أنه امتلك بعض الشجاعة الأدبية ليثير تساؤلا، ربما غاب عن أذهان الكثيرين منّا. فحوى السؤال يقول: أنه لو قدر لصحافي أو كاتب عربي أن يختار البلد التي يريد أن يعيش فيه، على أن يتوافر فيها الحد الأدنى من أشكال احترام المواطن، فأي بلد يختار؟
حمل السؤال شيئا من الطرافة المشوبة بالكثير من التحدي بفضل الطريقة التي فصل فيها صاحبنا تساؤله، حيث وجدناه يقول: أي من البلدين يختار ذلك الصحافي أو الكاتب: المغرب أم ليبيا؟ لبنان (تحت نيران القصف) أم سورية؟ الكويت أم العراق؟ باختصار كان يضع السائل الحاضرين أمام خيار صعب يقول: أيهما تختارون للعيش فيه، الأنظمة الجمهورية «التقدمية» العربية؟ أم تلك «الرجعية» الملكية أو المشيخية؟
المحزن في الموضوع، أن الإجابات أتت حينها في صالح الأنظمة التي جرى العرف على اعتبارها «رجعية ومتخلفة» وضد تلك المصنفة في الخانة «التقدمية». القياس هنا كان نسبيا. والحكم كان هو الآخر نسبيا أيضا.
القصد من استرجاع تلك الحادثة، هو الإشارة إلى خيبة أمل المواطن العربي الذي علق آمالا كبيرة على موجة الانقلابات العسكرية التي بدأتها ثورة يوليو/ تموز المصرية، وتبعتها بعد ذلك الانقلابات العسكرية التي أوصلت الضباط إلى ناصية الحكم.
لقد توهم ذلك الجيل العربي أن التغيير في التسمية من «الملكية» إلى «الجمهورية»، عامل كاف كي يعيد التجربة الأوروبية، عندما أطاحت الثورات البرجوازية بالأنظمة الإقطاعية، والتي كانت حينها ملكية، على الأرض العربية.
المعروف عن الثورة البرجوازية في أوروبا أنها جلبت معها كل عناصر التقدم العلمي والاقتصادي والاجتماعي والسياسي على حدٍّ سواء؛ الأمر الذي حوَّل أوروبا من قلعة من قلاع التخلف، إلى منصة من منابر التقدم.
مقابل ذلك وفي النصف الثاني من القرن الماضي، رفرفت فوق عواصم الخريطة العربية، رايات الأنظمة الجمهورية خفاقة لماعة، لكنها كانت في حقيقة الأمر تحافظ على، وتخفي تحتها كل «قيح» تخلف الأنظمة التي أطاحت بها.
أسوأ من كل ذلك انها أضافت إلى الأوضاع العربية السيئة السائدة حينها أشكالا جديدة من أشكال القمع ومصادرة الحريات والفساد لم تكن معروفة من قبل. ومما زاد الطين بلة، أن ذلك قد تم تحت شعارات «حماية التقدمية» والدفاع عن «التحولات الاجتماعية المتقدمة نحو الأمام»... إلخ من تغليف خاطئ لمفاهيم صحيحة.
وقضي على المواطن العربي أن يتجرع تلك السلبيات، ويضيف إليها الانقسامات اللا متناهية التي شهدتها أجنحة تلك القوى «التقدمية» سواء على المستوى الإقليمي كما شاهدنا الأمر في سورية والعراق، أو على المستوى القطْري، كما لمسناها في ليبيا والجزائر.
ولربما آن الأوان كي يقف ذلك الجيل وبشجاعة كي يعيد النظر في التجربة برمتها، وخاصة في دول مثل اليمن الجنوبي والجزائر التي أطاحت بالقوى الاستعمارية فيهما ثورات شعبية، وليس انقلابات عسكرية.
ما يدفعنا إلى إثارة هذا الموضوع اليوم، وتقليب المواجع، كما يقال بالعامية، هو ما نشهده من تكرار مشابه لصورة الأمس، ولكن في حلة جديدة، حيث تلبس القوى الداعية للتغيير لبوس الأديان، وخصوصا الدين الإسلامي، كي تضع النظام الإسلامي السياسي الداعية لإقامته، تماما كما فعلت قوى المعارضة القومية والشيوعية العربية، في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مع الفرق في الجوانب العقيدية والإيديولوجية، بديلا لكل ما هو قائم، بل ولكل بديل يمكن أن يطرح.
وعلى المنوال ذاته، وكما استمع جيل تلك الفترة، إلى أصوات أطروحات «التخوين» وصفات «التقاعس» و «التخاذل» و «التذبذب» التي وصمت بها قوى المدعية بالتغيير في الستينيات غيرها من القوى السياسية الأخرى، نجد اليوم قوى الإسلام السياسي، تحاول تحجيم، بل ونفي كل القوى الأخرى التي يمكن أن تكون حليفا طبيعيا لها، من خلال إلصاق التهم بها، وعن طريق وسمها بصفات تشوه صورتها في عين المواطن العربي.
وتماما، كما شاهدنا تشظي القوى القومية الأممية العربية في الستينيات من حزب البعث وحركة القوميين العرب والأحزاب الشيوعية الأرذوكسية، إلى فصائل وأجنحة، نلمس اليوم انشطارات الإخوان المسلمين وحركة حماس وحزب الدعوة وغيرها من قوى الإسلام السياسي الأخرى إلى مجموعات صغيرة يتلاشى بعضها، تماما كما عانت من انقساماتها القوى القومية والشيوعية، ويضمر البعض الآخر إلى درجة العدمية. ومحصلة كل ذلك ضعف الحركة الأم، كما حصل في السبعينيات من القرن الماضي.
علامة الاستفهام التي تقف فيما يشبه التحدي أمام القوى السياسية العربية، بكل فصائلها والقيادات التي في قمتها هي: لماذا يحصل مثل هذا السلوك الإيديو - سياسي في المنطقة العربية فحسب؟
ففي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي كانت حركات قومية وشيوعية غير عربية في فيتنام مثلا وكوريا بل وحتى الصين، لكنها لم تعرف سلوك التشظي - التآمري الذي عانت منه تلك القوى العربية.
وكما في الجانب القومي والأممي، هناك الحالة الإسلامية السياسية، فهناك إسلام في ماليزيا وتركيا، ولم تعرف تلك القوى الإسلامية فيها ما تعرضت له شقيقتها في البدان العربية، عندما نتحدث عن السلوك الإيديو - سياسي.
كل ذلك يدعونا إلى التأمل في السلوك الإيديو - سياسي العربي كي نستطيع ان نستخلص من قراءته بشكل صحيح من النتائج التي تحول دون تكرار أخطاء ذلك السلوك بعد نصف قرن من الزمان من الآن، فتدفع الأجيال القادمة فاتورة باهظة دفعتها أكثر من مرة، وبأسعار مكلفة، أجيال عربية سبقتها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2545 - الإثنين 24 أغسطس 2009م الموافق 03 رمضان 1430هـ