العدد 2544 - الأحد 23 أغسطس 2009م الموافق 02 رمضان 1430هـ

عودة «السلام الآن» إلى الحركة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

التصريح الخجول الذي صدر عن حركة «السلام الآن» الإسرائيلية بشأن استكمال بناء المستوطنات في الضفة الغربية يشكل بداية عودة لصوت غاب عن المسرح السياسي لعوامل ايديولوجية مختلفة. فالحركة التي قادت المظاهرات في ثمانينات القرن الماضي ضد الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982 وساهمت في تقديم رؤية ايديولوجية مخالفة لطبيعة الدولة العبرية أصيبت فجأة بالضعف وأخذت تتفكك وتتراجع وتتخلى عن موقعها الخاص في دائرة التجاذب الذي شهدته «إسرائيل» بعد تولي «الليكود» مقاليد السلطة في تل أبيب.

تراجع حركة «السلام الآن» عن مواقعها الايديولوجية وصمتها الإعلامي وعدم اعتراضها على السياسات الإسرائيلية وجّه ضربة لكل القوى المعارضة للاحتلال والتوسع والاستيطان في فترة مفصلية شهد العالم خلالها مجموعة تحولات دولية وإقليمية وفلسطينية. وأدى السكوت السياسي إلى توجيه رسائل ملتبسة بشأن مدى التزام الحركة بتلك الشعارات الايديولوجية المضادة للمشروع الصهيوني. فالصمت قاد إلى تأويلات أخذت تشكك بمدى صدقية مجموعة سياسية حاولت تقديم نفسها في سياق مخالف للدولة العبرية. والتشكيك بمدى التزام الحركة بالسلام تأسس على غموض مواقف قادة المجموعة السياسية من نقاط مهمة وفاصلة في تحديد الفروقات بين الصهيونية وخصومها. فالحركة لم تكن واضحة في مسألة هوية القدس ومصير المدينة المقدسة. كذلك كانت غامضة في موضوع الهجرة اليهودية الكثيفة التي هبّت على «إسرائيل» في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي من الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي. والأمر نفسه ينطبق على تردد الحركة في اتخاذ موقف حاسم من مسألة العودة وتجميد بناء المستوطنات.

بسبب تلعثم حركة «السلام الآن» بشأن أهم النقاط المفصلية (القدس، الهجرة، العودة، الاستيطان) انكشف الغطاء الايديولوجي وبدأت أطراف الحركة تتوزع على محاور ما أدى بها إلى التفكك وثم الغياب السياسي عن مسرح التجاذبات الإسرائيلية. الآن بدأت الحركة تنشط بهدوء مستعيدة بعض الشعارات التي اعتمدت عليها ايديولوجيا للتمايز السياسي عن الأحزاب الصهيونية الكبيرة. فهل تجاوزت الحركة عقدة الخوف وبدأت تستعد لإعادة توحيد صفوفها مستفيدة من تلك المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية؟

الاحتمالات مفتوحة ويرجح أن تكون حركة «السلام الآن» بصدد مراجعة خطابها وإعادة تشكيل منظومته الايديولوجية لتعبئة الفراغ الناجم عن ارتدادها عن مشروعها المضاد وانزواء قادتها في مربعات أمنية لم تكن كافية لتبرير وظيفتها.

لاشك في أن الظروف لعبت دورها في إرباك أنشطة حركة «السلام الآن» حين وصل تأثيرها الايديولوجي إلى طور متقدم بالمعايير الإسرائيلية. فالحركة تعرضت للاهتزاز حين بدأ المعسكر الاشتراكي يمرّ في منعطف زعزع مواقعه وأركانه لمصلحة الهجوم الأميركي (الرأسمالي) في أوروبا الشرقية. وازدادت الحركة ارتباكا حين بدأت موجات الهجرة (التهجير) اليهودية تتوالى على فلسطين المحتلة من الدول الاشتراكية بضمانات مالية أميركية وغطاء إعلامي أوروبي.

موجات التهجير الضخمة حشرت حركة «السلام الآن» في زاوية صعبة. فهي لا تستطيع الاعتراض عليها خوفا من اتهامات «الخيانة» و«التآمر» وهي مضطرة للتعامل معها بإيجابية ظنا منها أن الموجات الآتية من دول «الرفاق» لابد أن تكون «اشتراكية» و«إنسانية» وضد العنصرية وبالتالي السكوت عنها يعطي فرصة للتعاون معها لتشكل ذاك الرافد الجديد والقوي الداعم للتوجهات المسالمة والمتصالحة مع الشعب الفلسطيني.

المفاجأة كانت أن تلك الموجات التي زحفت تباعا إلى فلسطين حملت معها ايديولوجية صهيونية متطرفة مضادة للاشتراكية وكارهة للعرب (ليبرمان مثالا) وترفض السلام وتطالب بالحروب والتوسع والاستيطان ولا تريد الانسحاب والتسوية.

شكلت الموجات (هجرة اليهود من المنظومة الاشتراكية) صدمة ايديولوجية لمعسكر «السلام» في الدولة العبرية الذي وجده نفسه في مواجهة سياسية غير محسوبة ضد قوى «أصولية» و«قومية» وشديدة التطرف وقريبة في تصوراتها من أحزاب «اليمين الصهيوني» وبعيدة جدا عن طروحات «حركة السلام الآن».

الصدمة لم تقتصر على الداخل الإسرائيلي وإنما تفرعت دوليا وإقليميا وفلسطينيا. فالحركة اكتشفت أن ايديولوجية اليسار بدأت تتلاشى دوليا بعد انهيار جدار برلين في العام 1989 وتقوض المعسكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفياتي في مطلع تسعينات القرن الماضي. فالانهيار السريع الذي أعطب المنظومة الاشتراكية لعب دوره في إقفال الطرق الايديولوجية أمام نمو أفكار «حركة السلام الآن» في ظل توالي موجات هجرة ساهمت في تعديل التوازن الديموغرافي وإدخال ثقافة متطرفة تزايد على الأحزاب الصهيونية التقليدية التي أسست «إسرائيل».


متغيرات إقليمية

إلى انهيار المنظومة الدولية للاشتراكية واليسار العالمي شكلت حرب الخليج الثانية في العام 1991 نقطة تحول مفصلية في توازن القوى الإقليمية إذ ساهمت في تعديل المزاج الثقافي الإسرائيلي وأعطت جرعة قوة لليمين المتطرف الذي استفاد من الانقسام العربي بشأن العراق. وبناء على تداعيات «أزمة الكويت» أخذت أجنحة أقصى التشدد الصهيوني تعزز مواقفها الايديولوجية في الداخل اعتمادا على إدارة أميركية أخذت تخطط لاجتياح العالم ضمن تصورات تتحدث عن «انتصار الغرب» وفوز «الرأسمالية الجديدة» وانكسار الدولة لمصلحة اقتصاد السوق وآلياته المفتوحة.

زاد الطين بلة حين أقدمت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية على توقيع «اتفاقات أوسلو» في العام 1993. فالاتفاقات وجهت ضربة قاسية لمنطق «حركة السلام الآن» لأنها جردتها ايديولوجيا من كل تلك الأسباب الخاصة التي تبرر وجودها في ساحة أخذت تتقارب وتتفاهم على تسوية مقبولة من الجانب الفلسطيني.

بعد «اتفاقات أوسلو» أخذت الأجنحة الايديولوجية المطالبة بالسلام والتسوية والانسحاب وإعطاء فرصة للشعب الفلسطيني بالعودة والاستقلال وبناء سلطة سياسية تتراجع لأنها عمليا فقدت وظيفتها ولم تعد قادرة على المضي في لعب دور خاص في ظل تفاهمات مضمونة دوليا وأميركيا.

كل هذه العوامل التي طرأت على المنطقة منذ الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982 إلى توقيع «اتفاقات أوسلو» في العام 1993 أضعفت العناصر الايديولوجية التي تأسست عليها حركة «السلام الآن». فالظروف الدولية (انهيار المنظومة الاشتراكية) والإقليمية (موجات هجرة معطوفة على حرب شطبت العراق من المعادلة) والفلسطينية (توقيع اتفاقات أوسلو) حاصرت حركة «السلام الآن» وعزلتها عن المسرح الإسرائيلي وحشرتها في زاوية ايديولوجية شديدة التطرف تقودها مجموعة يمينية نزحت من الدول الاشتراكية سابقا.

الصمت قد تكون له مبرراته الموضوعية إلا أن السكوت عن أبسط المسائل السياسية شكل أبرز نقاط ضعف حركة «السلام الآن» الذاتية. فهذه الحركة تراجعت كثيرا حتى عن خطاباتها الايديولوجية التي أسست سابقا مظلة إعلامية تدافع عن حقوق الشعب الفلسطيني المدنية والإنسانية والأخلاقية. حتى هذه المطالب البسيطة والعادلة ترددت الحركة في خوض غمارها خوفا من تلك الارتدادات التي زعزعت «إسرائيل» في أعقاب توالي الموجات المهاجرة من دول «الرفاق» الاشتراكية.

الآن وبعد عقد من العزلة بدأت أصوات الحركة تعود للظهور معلنة بخجل عن استنكارها لمواصلة حكومة الثنائي نتنياهو-ليبرمان سياسة الاستيطان والتوطين وبناء المستوطنات. واستئناف «السلام الآن» سياسة الاعتراض على مشروعات حكومة أقصى التطرف الصهيوني لابد من وضعه أيضا في سياق متغيرات دولية وإقليمية وفلسطينية وإسرائيلية. أميركيا بدأت إدارة واشنطن تتواضع وتعيد النظر بخطاب «تيار المحافظين الجدد» في ضوء إخفاقات واشنطن في سياساتها الدولية. وإقليميا أخذت الضغوط الناعمة على حكومة الثنائي تلعب دورها في ترسيم خطوط سلام يمكن أن تتبلور خطواتها في الأسابيع المقبلة. وفلسطينيا انكشفت «اتفاقات أوسلو» عن ثغرات بنيوية تحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة حتى تتوضح زواياها الغامضة المتصلة بالقدس والعودة وبناء دولة «قابلة للحياة». وإسرائيليا تبدو حركة «السلام الآن» في وضع أفضل من السابق بعد أن تم استيعاب تأثيرات موجات الهجرة التي استقرت وتموضعت ونجحت في تشكيل مراكز قوى في السلطة (إسرائيل بيتنا) مستفيدة من أصوات التكتلات الاستيطانية.

كل هذه العوامل التي استجدت على المسرح الدولي ومنعطفاته الإقليمية يمكن أن تكون الدافع الخفي الذي شجع حركة «السلام الآن» للخروج على صمتها معلنة اعتراضها الخجول على استمرار الحكومة في سياسة بناء المستوطنات وتوسيعها.

الإعلان عادي وضعيف ولكن مجرد صدوره بعد تراجع يشكل إشارة إلى احتمال انكسار حاجز الخوف وبدء عودة «السلام الآن» إلى الحركة مستفيدة من المتغيرات لتجديد دورها وتنشيط وظائفها بعد غياب قسري.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2544 - الأحد 23 أغسطس 2009م الموافق 02 رمضان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً