الصورة التي بثتها وكالة «رويترز» عن التحضيرات اللوجستية لإنجاح العملية الانتخابية في أفغانستان تستحق القراءة. فالصورة لدابة تحمل صندوق اقتراع تسير باتجاه قرية نائية في الريف البعيد عن العالم. المشهد المحيط بالدابة يتشكل من جبال جرداء وأودية جافة ومساحات خالية من البشر والشجر. والدابة تصعد بصعوبة على منحدر جبلي تتراكم على حوافه الأتربة والحجارة. وراء الدابة رجل أفغاني كلفته اللجنة المشرفة على اليوم الانتخابي بحراسة صندوق البلاستيك وحمايته من عمليات انتحارية هددت جماعات مسلحة بارتكابها لمنع نجاح العملية السياسية.
صورة «رويترز» تختصر الكثير من الكلام عن أزمة الديمقراطية في بلدان لاتزال تاريخيا في طور «ما قبل الدولة» وتعيش فيها جماعات أهلية لم تتوصل في تقدمها الاجتماعي إلى مفهوم «الشعب» أو المواطن الحرّ وصاحب القرار المستقل في الاختيار والمفاضلة بين مترشح وآخر.
هذا جانب غير منظور في الصورة. الجانب الواضح أن «رويترز» أرادت توجيه رسالة تؤكد احتمال نمو الديمقراطية (مشهد الاقتراع) وصعودها البدائي في بلدان وعرة لم تصل إليها المستشفيات والمدارس والكهرباء والطرقات، وتنتشر فيها الأمية وتسيطر على علاقاتها ثقافة القبيلة والتعصب.
القرية نائية ومنعزلة عن العالم وهي لا تعرف السيارة ولا الهاتف ولا المصباح الكهربائي ولا التلفزيون والأجهزة المرئية. فالمشهد المحيط بالدابة يؤشر إلى خلاء عام وخواء في مظاهر «الحداثة» ومتطلبات الحياة الاستهلاكية البسيطة في عصرنا.
ديمقراطية «صناديق الاقتراع» تطرح فعلا أسئلة لا تنتهي بشأن مدى نجاعة نظرية انتقال السلطة سلميا في بلد لم تتوصل فيه السياسة إلى طور متقدم من الوعي الذي يتقبل احتمال نجاح الخصم في عملية شكلية لا قيمة لها في بيئة تسيطر عليها القبيلة والعصبية والولاءات الضيقة التي لا تتجاوز حدود القرية النائية والريف المنعزل عن فضاءات العالم.
الصندوق الذي تحمله الدابة تراهن عليه دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وترى فيه الخبر اليقين الذي يؤشر إلى وجود تحولات حقيقية بدأت تشق طريقها الوعر وبين المنحدرات بعد أن أقدمت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة على إزاحة حكم «طالبان» واحتلال أفغانستان. فالصندوق حتى لو حملته دابة إلى مكان بعيد لا تصل إليه التكنولوجيا الأميركية يشكل لمراجع القرار في واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي الدليل الملموس على صحة السياسة التي تعتمدها في تطوير البلدان النامية (أو المتخلفة) ونقلها من عصر الديكتاتورية الفردية أو مرحلة «الاستبداد الشرقي» إلى عصر آخر تسوده العدالة وحرية الاختيار وحق التنافس وتداول السلطة سلميا بين القوى الحزبية.
مشكلة صورة «رويترز» ليست في الدابة وإنما في «الصندوق» والمراهنة الأطلسية على أن هذه الوسيلة كافية لحمل الشعوب من طور إلى آخر ونقلها من مكان إلى آخر من خلال إسقاط سكان القرية النائية الأوراق في وعاء من البلاستيك الشفاف.
تناقض الصورة (الدابة والصندوق) يعطي فكرة سريعة عن أزمة ديمقراطية تسقط على الشعوب بالمظلات كما يتم إسقاط الأوراق في الوعاء البلاستيكي. فالصورة تكشف عن مأساة الديمقراطية الأوروبية - الأميركية المعلبة والمختومة بالشمع الأحمر والأصابع الملوثة بالحبر الأزرق. ومشهد الصورة المحاط بالجبال الجرداء والمنحدرات الوعرة يعكس تلك المفارقة التاريخية بين الدابة والصندوق. الدابة التي تقوم بوظيفة النقل تشكل الجانب الحقيقي من الواقع المقفل والمنعزل عن العالم بينما الصندوق البلاستيكي الفارغ يشكل الجانب الكاذب من واقع آخر لا صلة له بتضاريس الجغرافيا البشرية الأفغانية.
أفغانستان التي تعيش منذ نهاية العام 2001 فترة الاحتلال الأميركي - الأطلسي بحاجة إلى مئات المدارس وعشرات المستشفيات وآلاف المشروعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة لتأمين الحد الأدنى من متطلبات الحياة اليومية. فهذا البلد الصعب تسوده الأمية ولا يعرف القراءة والكتابة ومنقطع تقريبا عن المحيط والعالم ويمارس طقوس القبيلة ويتزاحم على الجبال لتغذية قطعان الماعز، ينظر إلى «الصندوق» بصفته بدعة أجنبية تريد قهره وتعديل نمط معاشه وتحطيم الولاءات الموروثة من القدم.
الناس قبل البلاستيك
الناس في أفغانستان ينتظرون منذ ثماني سنوات الغذاء والدواء ومشاريع التنمية التي تساعد زعماء القبائل وأمراء الحرب على الاستغناء عن السلاح وعدم الاعتماد على زراعة الحشيش واسطة للعيش أو تهريب المخدرات وسيلة للكسب. ولكن الأهالي المحاصرين من «القاعدة» و«الأطلسي» يعيشون يوميا لحظات رعب صواريخ تسقطها طائرات من دون طيار على الريف البعيد والقرى النائية، ثم يلتقون كل أربع سنوات «صناديق بلاستيك» يحملها دواب للاطلاع على رأي الناس بالديمقراطية والعملية السياسية السلمية.
المشكلة في الحلف الأطلسي أنه يراهن على «ديمقراطية الدواب» ويرى أنها القناة التاريخية التي لابد من اعتمادها لإحداث صدمة ثقافية تساعد على إنجاز التطور الاجتماعي المطلوب حتى تتمكن من مدّ شبكات التنمية والتحديث والتقدم. ومثل هذه القناعة السياسية التي تتحكم في مفاصلها لوبيات مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة لا يمكن لها أن تنتج سوى المزيد من الدمار والقتل «وصندوق اقتراع» تنقله دابة سالكة منحدرات جبلية وعرة إلى قرى نائية لا تدرك أبعاد ما يحصل ولا علاقة لها بكل تلك الآراء الديمقراطية التي تنتجها معاهد البحوث والدراسات الاستراتيجية في أميركا والاتحاد الأوروبي عن الحرية وحقوق الإنسان وتمكين المرأة.
هذه المفارقة بين الفكرة (صندوق الاقتراع) والواقع (الدابة) تكشف أسرار فشل الديمقراطية في بلد يعيش الحروب الدائمة منذ «عهد الامبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس». فأفغانستان لاتزال تنتقل من محتل يريد بناء الاشتراكية على النمط السوفياتي إلى محتل آخر يريد بناء الديمقراطية على النمط الأميركي ما أدى إلى تحويلها إلى ساحة مفتوحة لاختبار أحدث الأسلحة وآخر مبتكرات مختبرات الأدوية. وبسبب هذه الكذبة الكبرى أصبح الشعب الأفغاني (قبائل البشتون والطاجيك والبلوش والهزارة والأوزبك) مجموعة نماذج بشرية للامتحان والتجارب.
فكرة إن «الصندوق» يسبق مشروعات التنمية والنمو والتطور والكهرباء والمدارس والمستشفيات والطرقات والسيارات وأجهزة التلفزة والمعاهد وغيرها من متطلبات وحاجات إنسانية تشكل في جوهرها خدعة سياسية، وهي لا معنى لها سوى تبرير أميركا والدول الأوروبية لشعوبها ودافع الضرائب أسباب إنفاق حكومات الأطلسي مليارات الدولارات على موازنات الحروب.
أنفقت دول الأطلسي مئات المليارات على أفغانستان خلال سنوات الاحتلال الطوال، وهي حتى الآن تتردد في توظيف المال في مشروعات تنمية أو الاستثمار في قطاعات منتجة تنقل الناس من عصر «الدابة» إلى عصر «صناديق الاقتراع».
مشهد صورة «رويترز» أعطى فكرة موجزة عن سياسة لا وظيفة لها سوى إعادة إنتاج سلطة القبيلة من خلال فرز الأصوات من الصناديق ونقل نتائجها النهائية بالكاميرات إلى دافع الضرائب في عواصم الغرب. والخلاف الذي أنتجته مراكز الفرز بين المترشحين (حميد قرضاي وعبدالله عبدالله) ليس سببه تلك الأخطاء التي ارتكبت في عمليات العدّ والحساب وإنما هو نتاج عدم اقتناع القبائل المتنافسة بحنكة الصناديق وحكمة اللجان المشرفة على تنظيم اليوم الانتخابي الطويل. فالسيناريو الإيراني (مترشحان يلعنان فوزهما بالرئاسة) الذي بدأ يتكرر في أفغانستان يؤشر إلى مأزق الديمقراطية المعلبة والمختومة بالشمع الأحمر والأصابع الملوثة بالحبر الأزرق. فالديمقراطية في النهاية لا تنتجها تلك «الصناديق البلاستيكية الشفافة» والجاهزة ولا الصواريخ المشفرة المتساقطة عن بعد على القرى النائية من طائرات من دون طيار. الديمقراطية «دابة» سياسية - تاريخية - ثقافية - تنموية وليست دابة تنقل صناديق من إنتاج معامل البلاستيك إلى عالم قبائلي - أقوامي - مناطقي مجهول ويعيش في طور «ما قبل الدولة»
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2543 - السبت 22 أغسطس 2009م الموافق 01 رمضان 1430هـ
الله ويش دعوى
صورة «رويترز» تختصر الكثير من الكلام عن أزمة الديمقراطية في بلدان لاتزال تاريخيا في طور «ما قبل الدولة» وتعيش فيها جماعات أهلية لم تتوصل في تقدمها الاجتماعي إلى مفهوم «الشعب» أو المواطن الحرّ وصاحب القرار المستقل في الاختيار والمفاضلة بين مترشح وآخر.
ممكن سؤال : كلامك هاذا يعني افغانستان لو الدول العربيه