يطل شهر رمضان المبارك على الأمة، والعالم الإسلامي يظهر كساحة للحروب، وكمسرح للعمليات القتالية، إضافة إلى أن العالم كله أصبح في منأى من الاحتلال، بينما بقي الاحتلال جاثما على أرض العرب والمسلمين في أكثر من موقع من مواقعها.
وهكذا، تبرز صورة العالم الإسلامي من فلسطين المحتلة التي ينهش الاستيطان البقية الباقية من جسدها، ويُقسم وزراء حكومة العدوّ على الولاء للاستيطان، فيما يُقسم المسئولون العرب من قلب العاصمة الأميركية على الوفاء بالتزاماتهم بالسير في خط التطبيع قدما، ولا يتورع أحدهم عن الثناء على رئيس حكومة العدوّ، ومن ثم عن تقديم النصائح للعدوّ بعدم مهاجمة إيران في هذه المرحلة، بحجّة أنّ «الهجوم العسكري سيوحّد الإيرانيين خلف قيادتهم»، كما نُقل عنه.
أما الإدارة الأميركية التي أوهمت البعض بأنها ستقترب قليلا من ملامسة الحقوق العربية والفلسطينية، فقد واصلت ملاحقة كل من يرسل أموال الزكاة والتبرعات للفلسطينيين وأودعتهم السجون، في الوقت الذي منحت فيه الهيئات الأميركية الداعمة للإسرائيليين والعاملة على تشجيع الاستيطان في القدس الشرقية تحديدا تسهيلات ضريبية بحجة تسهيل عمل الهيئات التربوية والمشاريع الاجتماعية.
وهكذا، تقف القضية الفلسطينية أمام مشهد جديد عنوانه تقديم منطق الاستيطان اليهودي على منطق حق العودة، ومنطق التفاوض الذي لا طريق غيره، كما صرّح بذلك رئيس السلطة الفلسطينية نفسه، على منطق الرفض والمواجهة والمقاومة.
لقد ابتُليت الأمة بعدوّ حاقد، وبمحاور دولية متآمرة، كما ابتُليت بهذه النوعية من القيادات التي تعبت من قضية فلسطين من دون أن تبذل جهدا يُذكر حيالها، وتريد للشعوب أن تسلّم بأن عليها التحرّر من هذه القضية، وأن تقبل بما يقدّمه الاحتلال لها، حتى في الوقت الذي أثبتت فيه هذه الشعوب بأنها قادرة على هزيمة المحتل عند أول فرصة أُتيحت لها، وفي أول سانحة برزت أمامها.
أما العراق الذي تُلاحِق فيه التفجيرات الإجرامية الناس في الشوارع وأماكن العمل وفي التجمّعات الشعبية، فقد بشّره الرئيس الأميركي بمزيد من العنف العبثي كما قال، لتستمر طاحونة القتل والدمار في القيام بدورها لحساب المحتل من جهة، ولحساب بعض المحاور التي تريد للعراقيين أن يكتووا بنيران الفتنة الداخلية، وتفضّل أن ينقسموا على أنفسهم وفي مواقعهم الشعبية والسياسية على أن يتوحّدوا تحت لافتة الدولة الموحَّدة، لأنها لا ترتاح لهذه الدولة ولا لقياداتها وشخصياتها.
وفي هذا الجوّ نريد للعراقيين أن يعملوا كفريق وطني وكفريق إسلامي لقطع الطريق على دعاة الانقسام ومثيري الفتنة، فيكونوا يدا واحدة تستمد قوتها من وحدة الصف، وتنطلق في رحاب هذا الشهر المبارك ومعانيه ومفاهيمه لتعمل لقيام العراق الحرّ السيد المستقل النابذ للاحتلال والطارد للفتنة، والملاحِق للقتلة والمجرمين.
أما أفغانستان الداخلة الى الانتخابات من أتون الاحتلال الذي يواصل قصفه لبيوت الفقراء، فيقتل عائلات بكاملها كلما أُصيب بنكسة ميدانية، فقد دخلت في متاهات الفوضى الأمنية والسياسية التي لا سبيل للشعب الأفغاني للخروج منها، لا من خلال محطة الانتخابات أو غيرها، ولا قرار للمحتل بالخروج من مستنقعها الدامي، حيث لا يريد للأفغانيين أن ينعموا بالحرية، لأن أطماعه ومصالحه تقتضي السير قدما في طريق الهيمنة والاحتلال.
ونصل الى اليمن الذي دخل في دوامة الحرب الداخلية التي تهدد بتصاعد دعوات الانفصال، وتفسح المجال لمزيد من الانقسامات التي يتداخل فيها العنوان السياسي بعناوين أخرى معقّدة تجعل البلد يطل على مرحلة صعبة وخطيرة، تسقط معها الوساطات الداخلية والخارجية، بينما تواصل الطائرات والدبابات والمدافع عملها، وتفرض منطقها الدامي على منطق الحوار الذي نريد للسلطة اليمنية أن تنطلق فيه دونما كلل أو ملل، كما نريد للآخرين الاستجابة له، فقد سبق لليمن أن طرح مبادرته في مسألة الحوار الفلسطيني الداخلي، ونحن لا نفهم كيف تنطلق مبادرة من هذا النوع وتسقط كل الدعوات لمبادرات داخلية حقيقية تُنهي الصراع الدامي في صعدة، وتعيد اليمن الى أجواء الوحدة والأمن والاستقرار؟!
إن هذا المشهد الدامي مع إطلالة شهر رمضان المبارك، والذي تتداخل فيه صُوَر التقاتل في الشوارع الصومالية مع ما حدث في غزة قبل أيام، مع كل تلك الدعوات التي يسلك أصحابها خط الانتقام من المسلمين والمصلّين والصائمين في هذا الشهر، تستدعي وقفة إسلامية وصدمة ميدانية تدعو للتساؤل حول الخطوط الطارئة على الأمة أمام هذا الواقع الذي كان نتيجة طبيعية للاحتلال الخارجي والظلم الداخلي الذي تعيشه شعوبنا إلى جانب الجهل أحيانا والأحقاد العصبيّة أحيانا أخرى.
فإذا وصلنا الى لبنان الذي تبشّر آخر الدراسات فيه بأن الكهرباء تحتاج الى ما يزيد على الثلاثة مليارات وثلاث سنوات لكي يتحسّن وضعها فحسب، والدولة تحتاج الى مليارات أخرى لتحسين أوضاع الوزارات والإدارات والمؤسسات، إننا أمام ذلك نسأل عن السبب في كل هذه الاستماتة على هذه الوزارة أو تلك، وعن تمسك هذا الفريق أو ذاك بمطالبه أمام دولة مفلسة، من دون أن يعمل الكثيرون ممّن تعاقبوا على الحكم فيها بأدنى مستوى من الجدّية لرفع كابوس الظلام عن كاهلها، أو أن يعملوا جديّا لجعل عجلتها الاقتصادية تدور فعليا بما قد يفسح المجال لدوران عجلتها السياسية بشكل أفضل.
أيها المسئولون في لبنان، يا من يهتف لهم الناس بكرة وأصيلا: إذا كانت العداوة فيما بينكم متأصلة الى هذا الحد، وإذا كانت الدولة بعيدة عن حركتكم على مستوى الذهنية والمنهج، وإذا لم يكن لكم من طاقة لمواجهة المشاكل التي استولدتها شخصانيتكم وحركتكم... استريحوا أو استقيلوا، أو مارسوا شيئا من الصوم الحقيقي الذي يجعلكم تتطهّرون من الرذيلة السياسية التي أفسدت الواقع، ووحّلت الذهنيات، وأنهكت البلد.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2542 - الجمعة 21 أغسطس 2009م الموافق 29 شعبان 1430هـ