يُشبِّه البعض التعارض الأميركي الصهيوني حول المستوطنات بأنه خلاف غائر. لكن الحقيقة هي أن الإرث التاريخي بين واشنطن وتل أبيب يفرض أن يكونا أقرب إلى نفسيهما من غيرهما. فالقرب قد يزداد ويتوثّق حين يحضر من هو خارج الجسم ولكن بطريقة «الحرص على المصالح الحقيقية حتى لو وقع الخلاف العَرَضِي».
لا يَهُم كثيرا إن ذَكَرَ أوباما القرآن الكريم عدّة مرّات في خطاب القاهرة، واستشهد ببعض آياته أو أنه لم يذكر لفظة إرهاب، أو أن يَصِف حماس بأنها تنظيم «يحظى بالدعم من قبل بعض الفلسطينيين». بل الأهم هو مدلولات ذلك على مسطرة التنفيذ.
ليس لأن تلك الإشارات غير مهمّة، بل لأنها لا تتجاوز إعلان نوايا مقبوضة ومحكومة بتعقيدات المصالح. للأسف فقد أصبحت تلك النوايا وازنة لعواطفنا وخياراتنا (فقط) لأننا بتنا نُقاربها بما كان يقوله ويفعله سلفه الجمهوري جورج بوش، وهنا يكمن الإشكال.
رعاية المصالح وصيانتها لا يُمكن أن تُعَدّ وتُحسب طبقا لمنسوب النوايا صعودا ونزولا. فهذه النوايا جزءٌ منها علاقات عامّة، وجزء آخر تكتيك، وجزء ثالث سياسة، ورابع استراتيجي. ففي أيّ نوايا أميركية نتحدث اليوم؟!
اليوم يكاد الرئيس باراك أوباما أن يُكمِل حوله الأول في السلطة. وهو إن بدا مُنسلِخا من جلد سلفه، إلاّ أنه يبقى الجالس التالي على العتبة ذاتها (البيت الأبيض). وهو ما يعني بقاء جزء من شبح ذلك السلف العابث في ذاكرة الدول والشعوب، والتي تضمّخت بأوزاره ملامح الدولة.
إذا فالمعالجات لقضايا العالم تحتاج أكثر من نيّة، بل وأكثر من عزيمة. عليه أن يُعالج أمزجة شعوب العالم الكارهة للمنطق الأميركي بقليل من الكولونيالية، لصالح مزيد من التعاون، وبقليل من القوة المادية لصالح مزيد من الاعتراف بالحقوق الوطنية.
في جواره القريب حيث اللاتينيين أغلقت الإكوادور قاعدة مانتا الأميركية العسكرية، ولم توافق الباراغواي على استضافتها داخل صحرائها بعد مجيء فرناندو لوغو إلى السلطة، وتأزّم الداخل البيرويي بعد قبول ليما استضافة القاعدة المطرودة حتى بَارَ المشروع، إلى أن استقرّ الأمر لها في كولومبيا. إنه نفور غريب لكل ما هو أميركي.
في أوروبا وهي الحليف الكلاسيكي لواشنطن دخلت الأخيرة في خلاف غائر مع الاتحاد الأوروبي عن تفسير اتفاق الـ ITA وتعريفاتها الجمركيّة. ثم بدأت تداعيات الخلاف بينهما حول الاحتباس الحراري، وقبله حول تشغيل الطائرات، ورفع حظر بيع الأسلحة للصين.
في آسيا برز الخلاف الأميركي الروسي في جورجيا وأوكرانيا حول الدرع الصاروخية والأسلحة النووية وتصدير السلاح التقليدي لإيران. وكذلك الحال مع الهند بشأن الاتفاق النووي ومصادر الطاقة الإيرانية، ومع الصين حول تايوان وكوريا الشمالية والنشاط الاقتصادي.
في الشرق الأوسط كان الخلاف مع الولايات المتحدة الأميركية يُكَالُ بالدم. في البداية تورّطت في انقلابات عسكرية (العراق) وناعمة (إيران). ثم أخذت تلامس حوادث المنطقة بقوات استعراضية كما حدث في الخليج ولبنان مطلع الثمانينيات.
ثم عمّدتها بضرب مصافي النفط الإيرانية في عبّادان ثم إسقاط طائرة الإيرباص الإيرانية وقتل 290 راكبا في يوليو/ تموز 1988. بعدها ولوجها حروب الصدور المفتوحة في حرب الخليج الثانية ثم الثالثة وأفغانستان. وهنا كانت المأساة.
ما أخلص إليه هو أن السياسات الأميركية الحالية تتبدّل ولكن بمقدار. ولأنها كذلك فإن مبادرات العرب يجب أن لا تزيد عن ذلك المقدار. فيما خصّ واشنطن فإن قبولها في مزاج الشعوب يتطلّب زيادة ذلك المقدار وجعله يتّسع للملمة جراح اقترفها الأميركي في السابق، وأيضا يتّسع لنسج علاقات أكثر احتراما مع الدول.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2540 - الأربعاء 19 أغسطس 2009م الموافق 27 شعبان 1430هـ