ينقل أحد المواطنين العرب ممن عايشوا الغزو الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وشهدوا معاركه، أن مجموعة من مختلف قوى المقاومة الفلسطينية واللبنانية كانت تسيطر على إحدى التلال المحيطة بـ «قلعة شقيف» الاستراتيجية. نجحت المجموعة، بفضل شجاعتها وأهمية موقعها الذي تسيطر عليه في إعاقة تقدم العدو الصهيوني حينها، لكن، ولسبب طارئ، اختلف المقاتلون حول مواقف وتحليلات قواهم السياسية... احتدم النقاش، وتبودلت الاتهامات وتنامت أصواتهم، التي باتت مرتفعة، إلى آذان جنود العدو الذين لم يكونوا بحاجة إلى الكثير من الحنكة، ولا الشجاعة كي يتقدموا نحو تلك التلة ويبيدوا المقاتلين المسيطرين عليها، دون أن يحملوا أنفسهم عناء التمييز بين أعضاء هذا الحزب أو ذاك التنظيم. استشهد أولئك المقاتلون قبل أن تتسنى لهم معرفة من كان المستفيد من ارتفاع أصواتهم. المحزن في الأمر أن كل فرد من أولئك الشباب المقاتلين، والذين لا يساورنا الشك في إخلاص كل فرد منهم، فاته وهو في قمة اندفاعه لتغليب وجهة نظره على الآخرين، أن يسأل نفسه من سيكون المستفيد من مثل تلك المهاترات؟
حكاية محزنة أخرى يرويها، وهو يمسح دمعة ألم، أحد المناضلين البحرينيين ممن كان لهم «شرف الإقامة»، في فنادق جزيرة جدة في منتصف السبعينيات، قبل أن تمسها يد العمران، وعندما كانت زنازين تلك الفنادق مأهولة بالمعتقلين السياسيين البحرينيين. يقول ذلك المناضل، إنه في أعقاب إحدى حفلات التعذيب التي كان يستمتع به جلادو هندرسون من أجانب ومحليين، وعندما عاد أعضاء المجموعة المعذَبة (بفتح الذال) إلى زنازينهم، بدأوا في مناقشة مواقف تنظيماتهم المختلفة من الأوضاع السياسية المحلية القائمة حينها.
مرة أخرى احتدم النقاش، وتبودلت الاتهامات، واستعان كل منهم بذخيرة غنية من المعلومات، التي اكتشفوا جميعهم، فيما بعد وبعد أن سبق السيف العذل، أنها استخدمت ضدهم في جلسات تحقيق أخرى. مرة أخرى غاب عن أذهان كل سكان تلك الزنزانة الضيقة ذات الرائحة الكريهة أن يقفوا أمام علامة استفهام تتحداهم قائلة: من هي الجهة التي يمكن أن تستخدم حصيلة تلك النقاشات ضدهم؟
حادثة تاريخية أخرى هي مشروع السلام المصري الذي عرضه الرئيس الراحل محمد أنور السادات أمام الكنيست الصهيوني، لن نخوض في تفاصيل تقويم تلك المبادرة، تكفي الإشارة إلى رفض السادات الالتقاء بوفد القمة العربية المنعقدة حينها في بغداد، والذي سبقت وصوله إلى مطار القاهرة رحلة السادات إلى تل أبيب، وكان ذلك الوفد أرسل بمبادرة من الشيخ الراحل زايد بن نهيان من أجل التباحث مع السادات.
تلي ذلك الرفض حملة من تبادل الاتهامات بين الأقطاب العربية بين مؤيد للمبادرة ومعارض لها. حصيلة كل ذلك الانشقاق كانت ذهاب السادات إلى تل أبيب، معزولا عن محيطه العربي، تسبقه إليها خلافاته مع الكتلة العربية. استفردت «إسرائيل» بالسادات ومارست عليه ضغوطا كشفتها وثائق المحادثات في وقت لاحق. نسي السادات، ومعه أيضا من عارضوا الاتفاقية أن يتمهلوا قبل الدخول في مهاترات الصراع ويسألوا أنفسهم، وبتجرد يكسوه النضج السياسي، وتغلفه مسئولية القيادة السياسية، من المستفيد عندما طفت خلافاتهم على السطح، وانحرفت من حوارات بناءة إلى مهاترات غير مبررة.
ما يدفع إلى سرد هذه الحقائق، وبشيء من الإطالة، هو ما بات المواطن البحريني يقرأه، يوميا في الصحف البحرينية من أعمدة يستمتع من يدونها في رشق الآخر بالاتهامات. ليس الغرض هنا الانتصار لأحدهم ضد الآخر، ولا يمكن أن يكون الهدف تخطئة هذا أو ذاك، لكن المقصود من الإشارة إلى تلك الحوارات - التي تطورت كي تتحول إلى ملاسنات، ثم وجدنا حراراتها تعلو وتعلو كي تصل اليوم إلى ما يشبه الاتهامات التي يشكك فيها البعض في وطنية البعض الآخر - هو الدعوة لوقفها، وقبل أن يكتب أصحابها ما يريدون نشره هم مطالبين، قبل وأكثر من غيرهم، أن يجيبوا على استفسار، ربما غاب عن أعينهم وهم في غمرة الجدل والحوار: من ترى المستفيد من هذا التلاسن؟
ليس هناك شك في أهمية الحوار، بل وفي ضرورة الاستعانة به من أجل بلورة فكرة، أو الدفاع عن موقف، لكن كما للاتفاق قيم ومفاهيم، كذلك للخلاف أخلاقه ومقاييسه من بين أهمها:
1. الهدف الواضح المقصود تحقيقه من وراء إثارة الحوار، كي لا يتحول الحوار إلى هدف بحد ذاته. حينها يفقد ذلك الحوار جدواه ويتحول من أداة بناء إلى معول هدم.
2. توقيت الحوار، فمن الأخطاء القاتلة، على سبيل المثال لا الحصر، إثارة الحوارات إبان المعارك، سياسية كانت أم عسكرية، بغضّ النظر عن التبريرات التي يسوقها أولئك الذين يثيرونها. فمهما حقق ذلك النقاش من مكاسب، تبقى ثانوية أمام الخسائر التي تتولد عنه.
3. سرية معلومات موضوع الحوار، فليس كل ما يعرف يقال، وخاصة عندما يتعلق الأمر بمصير أناس ربما لم يشاركوا في ذلك الحوار، ولم يؤخذ رأيهم حوله.
4. أساليب الحوار، فهناك أساليب أخلاقية لإدارة الحوار، ينبغي أن تكون حاضرة في جلساته، وفي ساحات نشره، مهما كانت النوايا الطيبة والأهداف التي تقف وراءه.
5. أطراف الحوار، إذ لا ينبغي، مهما بلغ الخلاف بين أطراف الفريق الواحد أن يسمحوا للغريب، مهما اقترب من أحدهم، أن يتدخل في الحوار الدائر بينهم، فإلى جانب جهله ببواطن الأمور، من الطبيعي أن يغلب مصالحه على مصالح من دعوه للاستئناس بآرائه.
وإلى أن يتوقف دوي مدافع ذلك الخلاف، يواصل المواطن البحريني رفع تساؤله أمام أطراف الخلاف: هلا سألتم أنفسكم من هو المستفيد من وراء ما تثيرونه من خلافات، وفي هذه المرحلة بالذات، وعلى النحو الذي تديرون فيه دفته؟
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2540 - الأربعاء 19 أغسطس 2009م الموافق 27 شعبان 1430هـ
أي حوار تتحدث عنه
هل التنازل معناه حوار , الحوار مبني على تساوي الاطراف في عدد التمثيل وليس أن اتنازل عن حق الناس المرشحه لصوتي لئتنازل عنه لمن لايملك نفس المقومات من القاعده الشعبيه صحيح انه سياسي مخضرم ولكن لايملك نفس العلاقات الاجتماعية المتوفره لدى الاخر وهل يتميز في الخضرمه على المرشح من الناس لا اكيد لا أحد يملك التنازل عن حق الناس في المرشح المنتخب من الناس مهما كان ، والحوار على مبدء البرنامج السياسي ممكن وليس في التمثيل .