كان الإنسان في العهود السابقة، في أوروبا مثلا في القرون الوسطى تحديدا، يعيش حالة مزرية من الفقر المدقع، أو يعيش حالة الكفاف في أفضل حالاته، وكانت الإقطاعيات المجاورة تعيش حالة من النزاع الدائم، والغزوات، واعتبرت مثل هذه النزاعات، والحروب، في فترات خلت من التاريخ أمراَ واقعا، وضرورة، بل كان هناك من يشيد بحسناتها...
لكن الحالة بدأت بالتحسن ولو بشكل بطيء، بعد القرن السادس عشر، إثر التبادل التجاري بين الدول، وشاعت حالة الاعتماد المتبادل، فالتجارة خففت من الاحتقانات فيما بين الدول، بل ربما قلنا أن التجارة شرعت بإرساء أسس السلام بينها.
ثمة حكاية طريفة من القرن السادس عشر تقول: بينما كانت السويد والدنمارك في نزاع دائم، أقام مزارعون من البلدين على الحدود نقاط التقاء تجارية، وأرسوا السلام فيما بينهم، بالضد من رغبات حكام البلدين، عندما أخذوا يتبادلون المواد والبضائع، فيقايضون (اللحم والزبدة، بالسمك والبهارات) لذلك شاعت نادرة تناقلها شعب البلدين تقول: (أرسى الثور السلام) فالثور هو عدة المزارعين، وهو أيضا من عناصر قوى الإنتاج المهمة في ذلك العهد.
إن النمو الحقيقي والتحسن الملحوظ في أوروبا، بدأ منذ القرن التاسع عشر، جرّاء الثورة الصناعية، حيث كان المزيد من الإنتاج، والتوسع في حجم الادخار، وتوظيف تلك الادخارات بإدخالها في حيّز الاستثمار، كل هذا إلى جانب أسباب أخرى ولاسيما السياسة الاقتصادية المتبعة، والتي سنوضح طبيعتها بعد قليل، كل هذا، دفع أوروبا إلى النهضة الحقيقية بخطا وئيدة، لكن ثابتة... هذا عن العالم الأوروبي، عالم الغنى، فكيف كانت حال النمو والتنمية، بالنسبة إلى عالم الفقر.
إن النموّ في البلدان الفقيرة، ولنأخذ الهند مثالا، إذا لم يتحقق بمعدلات جيدة نسبيا، لكن النتيجة دفعت الإنسان الهندي في المحصلة، للبحث عن عمل، والتحرر من سطوة الإقطاعي، الذي ظلّ يتحكم في مصيره ومصير الملايين من أمثاله، حتى المرأة التي كانت عالة على أهلها، قابعة في البيت حبيسة المنزل، تابعة لمعيلها، أتيحت لها فرص العمل، بعيدا عن عبودية الزوج والأهل، كما صارت الأسر ترسل أبناءها للمدارس... لهذا حق لبعضهم القول، إن النمو يبقى أجدى وسيلة، وأفضل سبيل لتجاوز حالات الفقر.
ترى أية سياسة اقتصادية ينبغي أن تتبع، حتى يكتب لتلك السياسات النجاح في التنمية، ومعالجة مسألة الفقر، وتوفير الثروة؟ هذا هو السؤال المهم والأساسي المطروح، وهو غاية هذا النص الذي بين أيدينا في التناول والمعالجة.
أمامنا نموذجان للاقتصاد: الاقتصاد الرأسمالي، أي اقتصاد السوق، أما الثاني فهو اقتصاد التخطيط المركزي، النموذج السوفييتي، فلو أخذنا شعب بلد واحد في بلد منقسم، تتوزع شعوبه على النموذجين، ثم وقفنا على النتائج، نستطيع أن نستخلص بعض الأفكار ونخرج بالتالي بنتيجة ما، فالاقتصاد الرأسمالي، أي اقتصاد السوق، تدخل في إطاره ألمانيا الغربية، في حين أن ألمانيا الشرقية، أو ألمانيا الشيوعية، تدخل ضمن اقتصاد التخطيط المركزي، النموذج السوفييتي، وهما بلد واحد ينقسم، أو يتوزع شعبا وأرضا بين النموذجين كما قلنا، وكوريا الجنوبية الرأسمالية، إلى جانب كوريا الشمالية الشيوعية، مثال ثالث وأخير، تايوان الرأسمالية، والصين الشيوعية؛ كانتا من قبل كيانا واحدا، يمثلهما مركز واحد ولنتأمل الآن في النتائج، نتائج السياسات الاقتصادية المتبعة في كل بلد.
لقد شهدت ألمانيا الرأسمالية (معجزة اقتصادية) في الوقت ذاته كانت ألمانيا الشيوعية تنحدر نحو الفقر، كما أن كوريا الرأسمالية عرفت تطورا اقتصاديا وتكنولوجيا هائلا، تعرض في ذات الحين اقتصاد كوريا الشيوعية، إلى ركود ثم الميل باتجاه الانهيار... وفي حين كانت الصين الشيوعية تعاني من الفقر والمجاعة، شهدت تايوان تطورا هائلا، ما حدا بالصين أخيرا مضطرة إلى فتح أسواقها أمام عالم التجارة والاستثمار... ولا ننسى النموذج السوفييتي في أوروبا الشرقية كيف أنه انهار بالكامل، حيث شمل الانهيار الاتحاد السوفييتي وجميع دول أوروبا الشرقية... وهنا حق القول، إن السياسة الاقتصادية للرأسمالية (السوق الحرة) هي التي كسبت الرهان، وانتصرت على اقتصاد التخطيط المركزي، الذي اندحر أي اندحار...!
عمد كثير من القادة اليساريين بغية التخفيف من وطأة الفارق الكبير بين بلدان النموذجين - الاقتصاد الحر، والتخطيط المركزي - إلى الترنم بهذه المقولة، في الاقتصاد الحر، حيث البلدان الرأسمالية (الأغنياء يزدادون غنى والفقراء يزدادون فقرا).
من خلال قراءتي للأدبيات الماركسية، لا تجد في هذه المقولة سوى نصف الحقيقة، صحيح أن الأغنياء يزدادون غنى، لكن أيضا أشار ماركس بالتحسن الذي يطرأ على وضع الطبقات الدنيا أيضا، لكن ربما أن نتفق بأن البون، أو الفارق بين الطبقتين، يزداد اتساعا، لكن القول بأن الفقراء يزدادون فقرا، فهذا لا يقره الواقع، وإلا فلماذا يدعو بليخانوف إلى التنمية الرأسمالية لتحسين وضع الطبقات الدنيا، فقد قال في العام 1883: (نحن لا نعاني في روسيا من نمو الرأسمالية، بل نعاني من عدم كفاية نموها) وبعد أكثر من عقدين عاد لينين ليكرر الكلام نفسه، ويمضي به أكثر وضوحا، عندما قال ما معناه من، إن معاناة الشعب الروسي ليست بسبب الرأسمالية في روسيا، وإنما بسبب تأخر الرأسمالية فيها، ونحن مع تطور الرأسمالية بشكل مطلق ودون تحفظ، إن هذا الكلام يستدعي منا أن نقف عنده ونتمعن فيه عندما يقول: ونحن مع تطور الرأسمالية على الإطلاق... فماذا يعني هذا الكلام، أنه يعني فسح المجال أمام القطاع الخاص الرأسمالي، أي أصحاب الملكيات الخاصة للتنمية الرأسمالية والاستثمار، وتقديم التسهيلات اللازمة لهم، أي (دعه يعمل، دعه يمر) تلك المقولة الاقتصادية القديمة، أو الترنيمة المعروفة، والتي أثبتت جدواها ومثال دول النمور الآسيوية ماثل لعيان، فقحط الأرض، وفقرها لم يحولا دون تنميتها أمام الإرادة الحرة.
علينا أخيرا إدراك أهمية الاقتصاد الحر، وبالتالي ضرورة فسح المجال، أما الناشطون اقتصاديا للعمل بكامل الحرية وألا نقيدهم بمركزية السلطة، بقراراتها المتشددة إذا أردنا لبلدنا الازدهار ولشعبنا الوفرة والعيش الكريم.
* كاتب و ناقد سوري، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مصباح الحرية»
www.misbahalhurriyya.or
إقرأ أيضا لـ "مصباح الحرية"العدد 2304 - الجمعة 26 ديسمبر 2008م الموافق 27 ذي الحجة 1429هـ