في زيارته للبحرين الأسبوع الماضي، طرح الأمين العام لاتحاد الصحافيين الدولي إيدن وايت عدة قضايا جوهرية، تمسّ الحريات العامة والعاملين بالوسط الإعلامي، والصحافيين على وجه الخصوص.
وايت أشار إلى ما قطعته البحرين من خطوات مهمة في تعزيز الحريات الصحافية وتحسين واقع النشر وحرية التعبير، لكنه دعا لإزالة التشريعات المقيّدة للحريات الصحافية، أو ما يتم على أساسه محاسبة الصحافيين كقانون الجنايات أو محاربة الإرهاب. كما طالب الحكومة بالفصل بين القضايا الأمنية والقضايا الإعلامية، وهو من أهمّ مطالب القوى السياسية والإعلامية الوطنية، لما سبّبه هذا الخلط الدائم من مشاكل وأضرار.
وايت كان واضحا في قوله: «يجب ألا نحارب الإرهاب بالحد من الحريات، ولذلك فإن أي حركة تقوم على أساس محاربة الإرهاب أو أية أسباب أخرى يجب أن تكون شفافة... فهناك الكثير من الحكومات تستغل فرصة الحديث عن الإرهاب للحد من الحريات المدنية».
ولتدعيم موقفه المتحفظ، قال وايت: «أنا أقر أن أكثر صحافيي العالم تتنصّت السلطات على مكالماتهم»، وهو إقرارٌ مهمٌ لأنه يصدر عن رجلٍ يقف على رأس الاتحاد الدولي للصحافيين، وله خبرة عشرين عاما من العمل في هذا الميدان.
على أن النقطة الأهم في حديثه حين تطرّق إلى البيت الصحافي من الداخل، إذ انتقد الصحافيين الذين يطرحون أفكارا مذهبية وطائفية، ويتقاضون أموالا لقاء ذلك. وقال فيما يشبه التهديد: «لقد كنا ساكتين كل الوقت... والأولى أن نحارب الفساد في مجتمعنا الصحافي قبل الفساد المتفشي في الجهات الأخرى»، فما اكتشفه الرجل هو أن «الكثير من الصحافيين الجيدين ملّوا من التغطية على فساد زملائهم» كما قال.
لا أدري ما الذي استند إليه وايت في حكمه، مع وجود كثرةٍ من الصحافيين الشرفاء الذين يرفضون السمسرة على أفكارهم ومواقفهم. ولكن يبدو أنه استمع للكثير من القصص والحكايات حتى خرج بهذا الانطباع السلبي حول حجم هذه النوعية الفاسدة. ولا أدري هل سمع عن صحافي تتم رشوته بقلمٍ قيمته عشرة دنانير، أو قارورة عطر بعشرين، أو ساعة يدٍ بقيمة 45، أو إطارٍ لنظّارته بـ 50! أثمانٌ بخسةٌ في سوق نخاسة الضمائر والقيم.
المرتشون طبعا ليسوا على الدرجة نفسها من الرخص، فهناك من لا يقبل بأقلّ من رحلةٍ سياحيةٍ فخمة، وبعضهم بسيارةٍ آخر موديل، أما أغلاهم فلا يقبل بغير قطعة أرض، وهم نوادر في هذا الزمان... بعد جنون أسعار العقار.
الإشكالية الأخلاقية هنا أن الفساد أرخَصَ من قيمة القلم، وحطّ من قيمة الفكر، وفتح الباب للزواحف والمنتفعين. ونحن لا ننتظر إقلاع المرتشي عن تلمظ حلاوة الرشوة واستطعام مال السحت، وسيستمر هؤلاء في الحديث عن القانون والاعتدال و «الانتلجنسيا» والباراسيكولوجي... فكلّ سارق يحتاج إلى قناعٍ يستتر به أمام الملأ.
ربما كان وايت منفعلا أكثر من اللازم حين صاح: «حين نعرف صحافيا فاسدا يجب أن نعرّيه»! هل ذلك عملي أو ممكن؟ وماذا لو بقي فترة أطول وسمع مزيدا من الحكايات؟ «كتّابٌ» مجهولون بأسماء «وهمية»، بعيدون كل البعد عن المجال الصحافي، تم إنزالهم بالـ «باراشوت»، يروّجون لأفكار ايديولوجية وطائفية معينة، يستلمون المبالغ المالية والمخصّصات، مذيّلةٌ مقالاتهم بإيميلات من مواقع مجهولة مثل هواتف العملة في الشوارع المظلمة.
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 2132 - الإثنين 07 يوليو 2008م الموافق 03 رجب 1429هـ