«سنعود إلى الليلة التي تم فيها اعتقال والدي»... هذه المحطة لا يمكن أن تفارق مخيلة محدثنا، ففي الحلقة الماضية بدأ الحديث بمرحلة الطفولة، ومر بما مر من ذكريات الدراسة والعمل وصولا إلى مرحلة الخمسينيات بكل ما فيها من تحولات مذهلة في المجتمع البحريني مع انطلاق حركة هيئة الاتحاد الوطني... أما في حلقة اليوم، فيعود محدثنا مرة أخرى إلى ليلة اعتقال المناضل الحاج عبدعلي العليوات إذ يقول: «كان هناك الكثير من الجنود الإنجليز يطوقون المنطقة بالكامل، واستيقظ الوالد من نومه قبل العادة لأنه كان يسمع جلبة تفتيش البيوت بيتا بيتا للبحث عن بيتنا، فاستيقظ ولبس ثيابه وطلب منا الخروج وفتح الباب للإشارة إلى بيتنا، لأن الوالد كان يرى أنه من غير المناسب أن يفتشوا بيوت الناس! فرفضت وأبلغته بأنهم إذا وصلوا إلى بيتنا سنفتح الباب.. هكذا كنت أفكر فقد كنت شابا يافعا كما قلت لك... المهم، أنهم جاءوا إلى بيتنا واعتقلوا الوالد وأعلنوا بعد ذلك أن (العليوات سلم نفسه)... كل ذلك جرى في توقيت الساعة الثالثة من بعد منتصف الليل.
بالمناسبة، أتذكر هنا موقفين بقيا في ذاكرتي، الأول، هو أن أحد الضباط الإنجليز رأى صندوقا حديدا وأشار إليه قائلا إنه سيأخذه! فقلت له إن هذا الصندوق يخص الوالد وكان لزاما عليكم إبلاغه قبل أخذه حين كان موجودا هنا من باب الاستئذان... ابتسم... وقال لي حينها: سنأخذ هذا الصندوق يعني سنأخذه، ولكنني قلت ذلك لكي نأخذه بأسلوب أخلاقي»!
والموقف الثاني؟
- الموقف الثاني، هو أن شخصا بحرينيا، كان رفيع الشأن من دون شك، حضر مع الإنجليز الذي انشغلوا بتفتيش الغرف في الطابق الأرضي... ذلك الشخص خاطب الإنجليز بصدق قائلا: «لا يوجد هنا سوى أطفال نائمون... ما الداعي لتفتيش الغرف هنا؟» وبناء على قوله، ترك الإنجليز المنزل وغادروا... أريد أن أقول إنه في السابق، كان بعض زوار الليل من ذوي القلوب الرحيمة في هذه المواقف على الأقل.
من الاستقلال إلى «التأسيسي»
سينتقل الحديث مع ابن المناضل البحريني المرحوم الحاج عبدعلي العليوات إلى مرحلة أخرى، فبعد أن تخلصت البحرين من الاحتلال البريطاني في 14 أغسطس/ آب من العام 1971، وبعد ذلك، كانت الحوادث تتوالى بظهور الدعوة الإيرانية لفرض السيادة على البلاد، لكن العلامة البارزة، هي أن البحرينيين رفضوا تلك الرغبات بشدة، وكشف استفتاء الأمم المتحدة الذي أشرف عليه ممثل الأمين العام لأمم المتحدة جينو سباردي موقف شيعة البحرين، والبحرينيين عموما، ورغبتهم في الاستقلال تحت قيادة سمو الأمير الراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة طيب الله ثراه.
وفي العام 1972، أصدر سمو الأمير الراحل مرسوما بقانون رقم (12) لسنة 1972 بشأن إنشاء مجلس تأسيسي لإعداد دستور للدولة. وجاء في مقدمة المرسوم أنه «رغبة منا في إرساء الحكم في البلاد على أسس قويمة من الديمقراطية والعدل، وفي ظل نظام دستوري برلماني يوطد حكم الشورى ويتفق مع ظروف البلاد وتراثها العربي والإسلامي، وبناء على ما عرضه مجلس الوزراء، وبعد موافقة مجلس الوزراء، رسمنا بالقانون الآتي... المادة الأولى... ينشأ مجلس تأسيسي لوضع مشروع دستور للبلاد».
انتخب البحرينيون 22 عضوا للمجلس التأسيسي المكلف بوضع الدستور، وعيّن الأمير 8 أعضاء وانضم إليهم 12 وزيرا بحكم مناصبهم (الغالبية للمنتخبين)، وانعقدت الجلسة الأولى لهذا المجلس يوم 16 ديسمبر/ كانون الأول 1972. وفي الثلاثين من الشهر نفسه أقر المجلس لائحته الداخلية وأصدرها ونشرها في الجريدة الرسمية، وأقر المجلس التأسيسي يوم 9 يونيو/ حزيران 1973 دستور (دولة البحرين آنذاك)، وصادق عليه الأمير يوم السادس من ديسمبر 1973 وتم نشره في الجريدة الرسمية واشتمل على 109 مواد.
يبدو أن المقام مناسب للحديث عن تجربتك مع المجلس التأسيسي... فكيف كانت البداية؟
الحديث الآن، في هذه المرحلة السياسية المهمة من تاريخ البلاد لمحدثنا عبدالكريم العليوات الذي دخل معترك العمل السياسي بالترشح للمجلس التأسيسي عن منطقة المخارقة أمام اثنين من المنافسين هما سعيد محمد جعفر ومترشح آخر من عائلة كازروني لا يتذكر اسمه، كما كان لكل من صديقيه رسول الجشي وكذلك المرحوم حميد العريض حظوة كبيرة، إذ فازا في الانتخابات وبدأت تجربة محدثنا في المجلس.
- دعني أدخل إلى التجربة من باب حفل عشاء... ففي إحدى الليالي، وبعد انتهاء الانتخابات، دعينا إلى العشاء في قصر القضيبية كوننا أعضاء مجلس تأسيسي، وحين ذهبنا إلى هناك، وجدنا أننا باعتبارنا أعضاء مجلس تأسيسي نجلس في آخر الطاولة! عدا الرئيس المرحوم إبراهيم العريض كان يجلس في أول الطاولة، وقد اعترضت على هذا الأمر ولم ألبِ الدعوة التالية لأنني رأيت أنه من غير المناسب أن نجلس نحن الممثلين عن الشعب في المؤخرة، وأتذكر أن الصحف كتبت في اليوم التالي عني: «تغيّب أحد أعضاء المجلس التأسيسي لأسباب بروتوكولية».
كانت المنافسة على رئاسة المجلس بين اثنين هما المرحومان إبراهيم العريض وعبدالعزيز الشملان، فأنا وبعض الأعضاء كنا نؤيد إبراهيم العريض حتى أن مندوب مجلة «الحوادث» سألني: «من تتوقع أن يكون رئيس المجلس؟»، فقلت: إبراهيم العريض، فقال لي إن هناك منافسة شديدة بين العريض والشملان، فقلت له: ومع وجود هذه المنافسة، فإن إبراهيم العريض سيفوز... وجاء كلامي في محله.
في بداية عمل المجلس، وبعد ستة أشهر، عرضت علينا الحكومة أن نتحول إلى مجلس نواب، وقد رفضنا كوننا مجلس تأسيسي أن نتحول الى مجلس نواب، لأن مجلس النواب يجب أن يكون مجلسا منتخبا بكامل أعضائه، ورفضنا الفكرة بالإجماع، وبقي المجلس التأسيسي يباشر عمله إلى أن أتينا إلى بعض المواد المثيرة للجدل: «هل البحرين دولة إسلامية كما نادت بعض الأصوات، أم أن البحرين دولة دينها الإسلام وتستمد أحكامها من القرآن الكريم كما ترى الحكومة؟».
زيارة المرحوم الشيخ باقر العصفور
بمناسبة الحديث عن الجدل بشأن دين الدولة... هل زرت المرحوم الشيخ باقر العصفور وناقشت معه الأمر؟
- كنت في زيارة للمرحوم الشيخ باقر العصفور، طيب الله ثراه، في منزله الكائن بالقرب من مسجد مؤمن بالمنامة فسألني: «ما أخبار المجلس؟»، فأبلغته بأننا نعيش جدلا بشأن دين الدولة وطرحت عليه الرأيين فقال: «لا يمكن أن تكون البحرين دولة إسلامية!»... استغربت من قوله وشعر بذلك فقال موضحا: «أنا أقول لك، وأنا عالم دين أتقاضى راتبا من الحكومة، وأعرف أن راتبي من الجمارك، وجزءا كبيرا من مدخول الجمارك هو من المشروبات الروحية، فما حيلة المضطر..؟».
بين العليوات والمتوج
وماذا عن النقاش بينك وبين المرحوم عضو المجلس حسن المتوج؟
- اتصلت ببعض علماء الدين، وقلت لهم: «يا أصحاب الفضيلة ما رأيكم؟»، فقالوا لا يمكن أن تكون دولة إسلامية، وأتذكر أنني اتصلت برسول الجشي وأبلغته بما قاله بعض العلماء، كما اتصلت بأحد أعضاء الكتلة الدينية وهو المرحوم حسن المتوج، وناقشته في الموضوع مؤيدا فكرة أن تكون البحرين دولة دينها الإسلام وتستمد أحكامها من القرآن الكريم، فقال معارضا: «لا يمكن... لابد أن تكون دولة إسلامية»، ونقلت إليه رأي أحد العلماء - لا أريد أن أذكر اسمه - فقال المرحوم المتوج: «أنا سأذهب إلى الرجل وأسأله»، فقلت له لنذهب، وكنت مطمئنا من جواب الرجل، وجئنا إلى العالم المذكور وذكرته بما قاله من إن البحرين لا يمكن أن تكون دولة إسلامية، وأخي المتوج يقول شيئا آخر أنت قلته له؟!... وقتها تراجع الرجل وقال: «المسألة فيها وجهة نظر»، واختلف رأيه بعد ذلك، وهو على أية حال لم يكن عضوا معنا في المجلس... كان معنا الشيخ عيسى قاسم، والمرحوم عبدالله المدني، وكان المرحوم المدني متفاهما مع الجميع حقيقة.
الشيراوي قالها... وصدق
يقال إن الوزير المرحوم يوسف الشيراوي تحداكم في تمرير «مخصصات الأمير» وكسب التحدي.
- من الموضوعات المثيرة للجدل مخصصات الأمير، فكانت الحكومة تدفع في اتجاه الموافقة على المخصصات، وكنا نرفض، فماذا فعلنا؟ اجتمعنا في منزل الأخ جاسم مراد لمناقشة الموضوع والإصرار على رفض إقرار المخصصات، وفي تلك الأثناء، كان المرحوم يوسف الشيراوي يقول واثقا: «ستوافقون على موازنة الأمير كما تريد الحكومة»، فقلت له: «لن نوافق»... المهم، اجتمعنا لكي نقرر ووجدنا أنفسنا أكثرية وأننا سنتغلب وسيكون لنا الصوت الأول... بحثنا الموضوع من كل جوانبه استعدادا للجلسة... وحضرنا الجلسة فطرحت الحكومة رأيها، وطرح المعارضون رأيهم الذي كان الأفضل بالنسبة إلي... ففوجئنا بأن غالبية الأعضاء صوتوا مع الحكومة عدا ثلاثة أعضاء هم: علي الصالح ورسول الجشي وأنا... وبعد الجلسة جاء الشيراوي وقال: «ألم أقل لكم أنكم ستصوتون مع الحكومة؟».
(يضحك)... كان هناك في المجلس ثلاث كتل رئيسية: الدينية، والحزبية كما اسميها، والثالثة محايدة، وكان أعضاء الكتلة المحايدة يلتقون مع الحزبية حينا والدينية حينا آخر... (يعود ليضحك)... في إحدى الجلسات، انسحبت الكتلة الدينية فانسحب معهم أحد الأعضاء ولم يكن من الكتلة أصلا! سألناه بعد ذلك: «لماذا انسحبت مع الكتلة الدينية؟ فقال، انسحبت معهم لأنني كنت على موعد مع صديقتي وحتى لا يفوتني الموعد، قررت الانسحاب... هكذا قال.
ومن باب المواقف الطريفة، كان يجلس بقربي أحد الأعضاء في الجلسة لا أريد أن أذكر اسمه... وكنت أدون ملاحظاتي التي تتعلق بسير المناقشات في ورقة، وتفاجأت بأنه كان يقرأ ما أكتب من ملاحظات ثم يطلب الحديث ويسبقني في طرح الملاحظات التي أدونها... هذا جزء من التجربة (يبتسم).
البلاد تدخل المرحلة الأصعب
وماذا بعد فترة انتخاب وحل المجلس الوطني؟
- بعد حل المجلس التأسيسي وانتخاب المجلس الوطني في العام 1973، دخلت البلاد مرحلة جديدة من العمل السياسي، ولكنني شخصيا أعتقد أننا قمنا بواجبنا... وأعود لأقول إننا كنا نعمل لصالح البحرين، قيادة وحكومة وشعبا... سواء تركز حديثي على فترة النضال التي قادها رموز النضال في البلد وحملوا أمانة الدفاع عن بلادهم والنضال من أجلها... أو الكيفية التي كانت تسير عليها حياة الناس في البحرين إلى قبل حل المجلس الوطني في العام 1975 ودخول البلاد في مرحلة قانون «أمن الدولة».
في ذاكرتي الكثير من المواقف التي لا أنساها بعيدا عن كل هذه الضجيج السياسي... سأعود إلى العام 1948 إذ عينت أول مدير لسينما البحرين وكان موقعها في الحورة، وكان مساعدي الشيخ عبدالعزيز بن جابر آل خليفة، وكان إنسانا طيبا في الحقيقة كما عرفته، تلك السينما كانت مملوكة إلى الشيخ علي بن أحمد آل خليفة وأسسها في العام 1948 وكنت في وقتها أعمل في المحكمة، قبل أن أنتقل لإدارة السينما.. كان الشيخ علي طيب الأخلاق، حتى بعد مرور سنين... فقد التقيته في حفل العشاء الذي أقيم بعد الانتخابات في قصر القضيبية، وكان البعض يقدم إلي التهنئة بالفوز في الانتخابات، وكان هو يرد على المهنئين: «هذا ولدي».
في حقبة الخمسينيات، ارتبطت بصداقة مع الشيخ مبارك بن حمود آل خليفة، يستدرك ليقول: «انظر، حتى أبناء العائلة الحاكمة كانوا قريبين من الناس. سافرت معه إلى سورية والعراق ولبنان بالباخرة، وكنا نسكن درجة ثانية، وفي الليل، كانوا يرفعون الأسرّة إلى أعلى السفينة، وكان صديقي الشيخ مبارك إذا جلس من النوم لشرب الماء، فإنه كان يشرب ويملأ لي كأسا آخر مع أنني نائم، فكان يوقظني من النوم لأشرب الماء».
لن تكون لنا «ديمقراطية محترمة»
هذا اللقاء الطويل قارب على نهايته، ولا أستطيع أن أعبر لك عن شكري، وخصوصا وأنت في وضع صحي متعب... لكن، وأخيرا، كيف تنظر إلى التجربة البرلمانية الحالية؟
- العمل النيابي اليوم سيئ للغاية، ووضعنا في الحقيقة من سيئ إلى أسوأ، والسبب في ذلك هو تغيير الدستور، لأن الدستور السابق أقره أناس منتخبون أما الدستور الجديد فهو جاهز ووافق عليه غالبية الشعب، وهذا ما أدى إلى وصول أناس إلى قبة البرلمان ممن هم غير قادرين على التعاطي مع قضايا البلد، ولا أعتقد أنه ستكون لدينا ديمقراطية محترمة لأنها أقفلت، وأرى أن التكاتف بين جميع المواطنين هو المطلوب، وخصوصا ونحن نعيش مرحلة مهمة بمشروع إصلاحي لجلالة العاهل، فالفرص لاتزال قائمة لتقويم مسار التجربة والقضاء على كل ما يعكر صفو المواطن في هذا البلد.
يصمت لحظة، ليقول: «النضال، كان من أجل البلد وشعبه وقيادته لا غير... البحرين كلها أسرة واحدة لكننا في حاجة إلى شعارات حقيقية للمصلحة العليا بين الحاكم والمحكوم... مما يجول في ذاكرتي، أن البعض كان ينقل بعض المواقف التي عرفها عن الوالد... فيشير أحدهم إلى أنه عرف عن والد موقفا لا يعلمه الكثيرون، وهو أن إحدى الشخصيات الكبيرة عرضت عليه القيام بانقلاب على الحاكم على أن يتم تولية تلك الشخصية في الحكم، لكن الوالد رفض بشدة هذا الأمر ورده على قائله... فيما سمعت من آخرين، أن البعض كان يناقش الوالد في أمر تحويل نظام الحكم إلى جمهورية، وهو الأمر، والعهدة على الراوي، الذي رفضه المناضل عبدعلي العليوات بشدة أيضا... ولا أعلم ما إذا كانت هذه الروايات صحيحة أم لا، لكن الذي أعلمه جيدا هو أن المناضل عبدعلي العليوات، عاش ومضى ابنا بارا للبحرين ماضيها، وحاضرها ومستقبلها».
العدد 2132 - الإثنين 07 يوليو 2008م الموافق 03 رجب 1429هـ