العدد 2132 - الإثنين 07 يوليو 2008م الموافق 03 رجب 1429هـ

تاريخ أبي في المدرسة

Common Ground comments [at] alwasatnews.com

خدمة Common Ground الإخبارية

نشأ والدي السوداني، وهو الآن في منتصف الثمانينيات من عمره، دون إمكانية الوصول إلى التعليم العام. لم تكن السلطة البريطانية الحاكمة قد بنت بعدُ مدرسة عامة قرب آرغو، قريته على نهر النيل شمال السودان، جنوب الحدود مع مصر. قاموا ببناء مدرسة هناك فيما بعد، وأصبحت الأول في قبيلتي البدوية الذي يحصل على تعليم رسمي، الأمر الذي أدى في نهاية المطاف إلى شهادة في الدراسات العليا بأميركا.

مع ذلك، أصبح والدي أول من يتعلم مبادئ القراءة والكتابة في القرية، والفضل يعود إلى المدرسة (الدينية الإسلامية) في قرية وادي حاج المجاورة.

وعلى رغم معارضة قبيلته، كان تدفعه رغبة لمغادرة حياة رعي الجِمال وتأجيرها للتنقل الداخلي. وهكذا وفي نهاية كل يوم كان يعبر الأميال الثلاثة على ظهر حمار من مخيم القبيلة إلى مدرسة القرية لقضاء بضع ساعات في الدراسة، ليعود قبل منتصف الليل بقليل.

لاحظت أسرة مضيافة قرب المدرسة تفانيه وتضحيته وعرضت عليه فراشا كلما تأخرت الصفوف الدراسية. انتقل تدريجيا بعيدا عن أكواخ القش التي تقيم فيها قبيلته وآبار الماء و «ترفَّع» إلى بيوت الطين ومياه النيل في القرية المجاورة. اعترضت قبيلته مرة أخرى عندما تزوج واحدة من بنات تلك الأسرة (والتي أصبحت أمي فيما بعد) وقاطعت حفل الزواج، وأخبرته أنه يتوجب عليه عدم الزواج من خارج القبيلة. كان تعليم أبي يتمحور بشكل كامل على القرآن الكريم، تماما مثل الصور التي قد نتخيلها عن المدارس في أفغانستان وباكستان، حيث يجلس طلبة يلبسون أردية بيضاء على الأرض في صفوف ويقرأون القرآن الكريم بصوت مرتفع، ويهزون رؤوسهم إلى الأعلى وإلى الأسفل بانسجام.

علمه القرآن الكريم كيف يقرأ ويكتب. علمه العربية الفصحى وتاريخ الأنبياء القدماء. الأهم من ذلك كله أن القرآن الكريم كان مرشده الأخلاقي الذي علمه الكرامة والأخلاق والمسئولية والعمل الجاد.

كانت المدرسة كذلك مركزا اجتماعيا. كان الذين تزوجوا حديثا والمولودون الجدد يحصلون هناك على البركة من شيخ القرية. وعندما يموت أحد القرويين كان أقرباؤه الحزانى يبقون في المدرسة، ينامون ويأكلون ويبقون أحيانا لمدة أربعين يوما.

يعود الفضل للمدرسة، لأن والدي نشأ ليصبح الطبيب الشعبي للقرية، وهو عالم في القرآن الكريم يصدر الفتاوى المحلية أو الآراء القانونية الدينية.

أذكر كيف كان القرويون يأتون إلى بيتنا يشكون من ألم الرأس. كان أبي يأخذهم إلى مكان هادئ ويضع يده اليمنى على رؤوسهم ويتلو سورا من القرآن الكريم.

وإذا تذمر أحد من ألم في المعدة، كان أبي يضع نصف دستة من الصحون الفخارية البيضاء فوق بعضها بعضا ويكتب عليها آيات من القرآن الكريم بحبر عضوي أسود. كان المريض يسكب ماء في كل صحن ليذيب الكتابات ثم يشرب المحلول الأسود.

لا تخطئوا الظن، فقد كان تعليم مدرسة أبي الإسلامية محافظا جدا. علّمته المدرسة أن الناس ينقسمون إلى مسلمين وغير مسلمين، وأن رسالة الله تعالى إلى السيد المسيح وموسى وغيرهما من الأنبياء التوراتيين كانت معترفا بها، ولكن رسالته تعالى إلى النبي محمد (ص) أتت بعدهم وأبطلتهم جميعا، وأن أفضل المسلمين هم من ضحوا بأنفسهم من أجل العدالة، وهذا يسمى بالجهاد الأعظم. ومع أن المدرسة جعلت من أبي متدينا، إلا أنها لم تجعل منه متعصبا.

لقد تمكن من فصل التراث المسيحي لحكامنا البريطانيين عن إنجازاتهم وقام بتوق وتلهف بتسجيلنا في المدرسة البريطانية التي أُنشئت حديثا. كان يقدّر العيادة الصحية التي أقاموها، ومكتب البريد الذي يستخدم رموز مورس، وسفنهم التي تحمل الناس والبضائع أعلى النيل وأسفله.

أدهشته مثلنا جميعا السلطة التي يمثلها الإداري البريطاني المحلي. الواقع أنه أطلق عليَّ اسم غرينفيلد مثل إداري بريطاني محلي.

والآن، وبعد مرور نصف قرن على ذلك يتقبل أبي وبفخر كوني أقيم بين الأميركيين الذين يعرف أنهم أحرار ومتقدمون إلى درجة بعيدة. وهو في الوقت نفسه غاضب بشدة من أميركا لما يؤمن بشدة أنها حربها العالمية على الإسلام والمسلمين.

وانعكاسا لموقفه تجاه البريطانيين، فهو يعتقد بأن بناء المدارس والمستشفيات لا يشكل مبررا لأميركا لأن تحتل الدول المسلمة، وبأن للمسلمين في هذه الدول الحق في إعلان الحرب ضد الغزاة، تدفعهم، مثله تماما، الوطنية والدين.

أحسده على قوته والتزامه وسكينته. وصلت الهواتف الخلوية قرية أبي اليوم. يكتنفني شعور بالهدوء والسكينة عندما أسمع عن بعد ستة آلاف ميل الصوت الخافت لرجل يصلي لي في نهاية كل مكالمة «ليحميك الله يا ابني ويرشدك ويهزم أعداءك».

*مراسل واشنطن لصحيفة «الشرق الأوسط» التي تملكها السعودية ومركزها لندن، والمقال ينشر بالتعاون مع «كومن غراوند»

إقرأ أيضا لـ "Common Ground"

العدد 2132 - الإثنين 07 يوليو 2008م الموافق 03 رجب 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً