تبدأ اليوم في جزيرة هوكايدو اليابانية قمة الدول الصناعية الثماني للبحث في ملفات الانتشار النووي وارتفاع الحرارة (الاحتباس الحراري) وأزمة الغذاء العالمية وارتفاع أسعار النفط وانخفاض قيمة الدولار وتأثير التلوث الصناعي على البيئة وغيرها من نقاط حساسة تثير الاضطرابات السياسية في الكثير من المناطق في العالم الثالث.
الملفات المذكورة مضافا إليها موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان ستكون مدار بحث الدول الثماني التي تصنف تقليديا في المرتبة الأولى قياسا بالدول الأخرى التي تحتل مرتبات الثانية والثالثة والرابعة.
هذا التصنيف للمراتب الذي بدأ العمل به في سبعينات وثمانينات القرن الماضي أخذ يستنفد أغراضه السياسية ولم يعد يلبي حاجات الدول الكبرى التي وظفت التراتب الدولي للضغط على المعسكر المضاد ومحاصرته ماليا واقتصاديا وإعلاميا لإضعافه داخليا تمهيدا لإسقاطه. بدأت الفكرة اقتصادية وضمت سبع دول (الولايات المتحدة، كندا، ألمانيا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، واليابان) اعتبرت آنذاك بأنها تشكل كتلة صناعية تهيمن على الإنتاج وسوق التجارة الدولية. وبسبب هذا الموقع اعتبرت الدول السبع أنها مطالبة بلعب دور خاص في منظومة العلاقات الدولية يعطيها حق الإشراف على توزيع الثروات ومراقبة الأسعار وضمان استقرار الأسواق واكتساب أفضلية في التنقيب عن المعادن والثروات وإدارتها لمنع ظهور حركات مستقلة او تكتلات إقليمية تعطل على اقتصادات الدول الكبرى النمو الدائم.
هذه المهمات الخاصة التي اعتمدتها الدول السبع في سياستها الاقتصادية تحولت إلى قوة ضغط سياسية على الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي. وبات لقاء الدول الصناعية (القمة السباعية) يشكل مناسبة دورية لفتح ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان بصفتها تحتوي على مواد أولية يمكن استثمارها لعزل التكتلات الإقليمية ومنعها من النمو أو الخروج من إطاراتها الايديولوجية المرسومة ضمن حلقات جغرافية ضيقة اتفق على حدودها في مؤتمر يالطا الذي انعقد في نهايات الحرب العالمية الثانية.
لم تكن فكرة إنشاء منظمة الدول الصناعية السبع بريئة. فالمجموعة تأسست لأغراض سياسية اعتمادا على مفهوم كلاسيكي متداول عن «التقدم» و«التأخر» و«النمو» و«التخلف». وكان الهدف من تأسيسها عزل معسكرات الخصوم وتطويق إمكانات تحول الأسواق الدولية إلى مشروع مفتوح للتنافس. فالمجموعة التي ادعت أنها تتبنى الاقتصاد الحر والمجتمع المفتوح وحق الشعوب في تقرير مصيرها لعبت دورا عكسيا حين لجأت الدول السبع إلى تعزيز مفهوم الاحتكار وتطوير أدوات الهيمنة ومراقبة الأسواق وحركة رأس المال وتكوين كارتيلات وشركات متعددة الجنسية تعتمد تحالفات مالية واقتصادية واستثمارية لتطويع القوى المنافسة ومنعها من التقدم ضمن آليات مستقلة عن استراتيجية الدول الصناعية الكبرى.
فكرة الدول الصناعية السبع جاءت لتلبية رغبات سياسية فرضتها حاجات التنافس في إطار ما عرف بـ «الحرب الباردة» وإنشاء المنظمة كان خطوة في سياق تصعيد الحرب الباردة ضد الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي وتلك الهيئات السياسية والاقتصادية والثقافية التي تشكلت على ضفاف «الحرب الباردة» ورفضت الانخراط في معادلة الثنائية الدولية.
وبسبب قوة الفكرة التي امتلكت قدرات وطاقات مالية واقتصادية واستثمارية هائلة نجحت منظمة الدول الصناعية السبع في فرض برنامجها على العالم وتحولت إلى كتلة متراصة تقود آليات السوق وتحدد شروط نموها وتقدمها. فالنزعة الاحتكارية التي تأسست عليها المجموعة الصناعية أهلتها لاحقا لوضع سقف دولي ينظم هيمنة الدول السبع ويرتب تحالفاتها في دائرة تتحكم في مداخلها ومخارجها الشركات المتعددة الجنسية والصناديق المالية الدولية.
نزعة الاحتكار فرضتها متطلبات «الحرب الباردة». وفي ضوء تلك الحاجة تشكلت فكرة إنشاء منظمة دولية توحد مصالح الدول السبع الكبرى. وتحت سقف حرية السوق والاقتصاد الحر وحق التنافس قامت تلك المجموعة بتعزيز سياسة الهيمنة وإدارة منظومة العلاقات الدولية في مواجهة خصمها الايديولوجي إلى أن نجحت في إسقاطه وتفكيكه في تسعينيات القرن الماضي.
مهمات جديدة
انهيار الثنائية الدولية أعاد صوغ الفكرة من أساسها وطرح أمام الدول السبع تحديات غير منظورة تمثلت في غياب المنافس الايديولوجي وتراجع الوظيفة السياسية لفكرة الاحتكار والمراقبة وضبط الأسواق والضغط على القوى المستقلة التي تقع خارج جغرافيا «الحرب الباردة».
تراجع الوظيفة السياسية لتجمع الدول الصناعية السبع فرض على عواصم الغرب إعادة البحث في تجديد عناصر القوة في تكتل اقتصادي استنفد أغراضه ولم يعد يمتلك المؤهلات التي تعطيه مبررات الاستمرار والتماسك في مواجهة عدو اختفى فجأة من الخريطة الجغرافية. لهذه الأسباب الموضوعية وجدت الدول السبع أن هناك ضرورة لتوسيع دائرة الهيئة الصناعية وإدخال روسيا الاتحادية في التجمع الاحتكاري لعوامل سياسية بعيدة عن الشروط الاقتصادية التي تتطلبها شروط العضوية.
انضمام روسيا إلى القمة رفع عدد الدول إلى ثمانٍ وزاد من مشكلات الدور الوظيفي للهيئة وموقعها في منظومة العلاقات الدولية. فالقمة التي فقدت مبررها السياسي وجدت نفسها محاطة بمجموعة تحديات تتجاوز فكرة الاحتكار التي تأسست بسببها. وسقوط الذريعة أضعف دور القمة وجعلها عرضة لمواجهات لا تقودها الدول كما هو حال «الحرب الباردة» وإنما مظاهرات شعبية تعم شوارع العالم تطالب «الأثرياء» بتنازلات تضمن استقرار البيئة وتوازن الطبيعة وحماية المستهلك ومراقبة المصانع من تلويث المناخ (الاحتباس الحراري) وتعريض الصحة العالمية للأمراض والأوبئة.
هذا جانب من الموضوع. الجانب الآخر يتصل بقيمة الدول الصناعية الثماني وثقلها ووزنها ودورها وبالتالي قدرتها على الاستمرار في قيادة الاقتصاد العالمي. فالمجال الاحتكاري الذي ضمنته القمة في بدايات تأسيسها أخذ يتراجع في بعض الحقول وبدأت تدخل عليه قوى منافسة تمتلك القوة والإمكانات لمشاطرة الدول الصناعية الكبرى في صوغ قراراتها التي كان لها شأنها المستقل في إدارة العلاقات الدولية في الفترات السابقة. وظهور القوى الجديدة (القديمة حضاريا) على خط المزاحمة عطّل على القمة الصناعية إمكانات تطوير مفهوم الهيمنة على الأسواق الدولية وأخذ يفرض على الدول الثماني أجندة تعيد النظر بتراتب الأولويات وتشترط عليها قراءة مغايرة للأبنية الاقتصادية في العالم.
إعادة ترتيب برنامج الأولويات يشكل المدخل الموضوعي لتقويم إدارة العلاقات الدولية في ضوء متغيرات اقتصادية يشهدها العالم. فالتحولات البنيوية التي عدّلت خريطة توزُّع المراكز الإنتاجية والأسواق الاستهلاكية تفرض على قمة الدول الصناعية الثماني المجتمعة اليوم في اليابان البدء في مراجعة الدور الوظيفي للهيئة الدولية. وهذه المراجعة لا بد أن تنظر في مشروع إعادة هيكلة الفكرة وتوسيع دائرتها لتضم الصين والهند والبرازيل وغيرها من قوى منافسة على خطي الإنتاج والاستهلاك. فالدول الثلاث تعتبر كبرى على مستويات المساحة الجغرافية والكثافة السكانية والثروات الطبيعية والمعدنية والطاقات البشرية النامية والقادرة على التطوير والدخول في الأسواق كقوى منافسة ماليا واقتصاديا.
قمة الدول الثماني لم تعد تعكس فعلا التوازن الاقتصادي في العلاقات الدولية. فالقمة خسرت وظيفتها السياسية الاحتكارية عند التأسيس ولم يعد هناك ما يبرر استمرارها بعد انهيار منظومة الثنائية الدولية (الحرب الباردة) وبات عليها الآن إعادة قراءة دورها في ضوء نمو اقتصادات على ضفافها تشكل قوة ضغط على هيكلية ترتيب درجات الدول وتراتبها الهرمي. ومثل هذه القوة الصاعدة دوليا لم يعد بإمكان «قمة الثماني» المنعقدة الآن في اليابان تجاهلها في عالم يشهد متغيرات تتجاوز ميدانيا سياسات الاحتكار والهيمنة التي عرفتها شعوب الأرض في فترة «الحرب الباردة».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2131 - الأحد 06 يوليو 2008م الموافق 02 رجب 1429هـ