بعد أقل من عشرة أيام يلتقي الرئيس الفلسطيني محمود عباس رئيس الحكومة الإسرائيلي إيهود أولمرت في واشنطن للبحث في مشروع الإعلان عن دولة فلسطينية مستقلة «قابلة للحياة». اللقاء الفلسطيني - الإسرائيلي جاء بناء على دعوة أميركية وقبل شهور من نهاية عهد الرئيس جورج بوش. فالرئيس الأميركي يريد الاطمئنان إلى مدى نجاح الاتصالات الثنائية في تلبية وعده الذي قطعه على نفسه ويقضي بالإعلان عن قيام دولتين قبل نهاية العام 2008.
نهاية العام 2008 باتت قريبة ويرجح أن يفشل الرئيس الأميركي في تنفيذ وعده في الشهور الستة المقبلة، وذلك لاعتبارات كثيرة منها عدم وجود رغبة حقيقية من قبل إدارة الولايات المتحدة في إذلال العقبات التي تمنع تنفيذ الوعد مقابل عدم وجود استعدادات إسرائيلية نظرية (أيديولوجية) أو ميدانية تظهر بالملموس أن تل أبيب أصبحت في موقع يسمح لها بالذهاب عمليا نحو هذا الهدف.
الدولة الفلسطينية «القابلة للحياة» يرجح ألا ترى الحياة في الفترة المتبقية من عهد بوش. والترجيح يستند إلى مجموعة معطيات تتصل أولا بجوهر الاستراتيجية الأميركية التي لاتزال تراهن على عامل القوة في تطويع المنطقة، وتتعلق ثانيا بتاريخ الدولة العبرية التي تعتمد أيديولوجية توسعية تقوم على فكرة الاستيلاء والطرد ومصادرة الأراضي وعدم الاعتراف بوجود حقوق فلسطينية ثابتة.
العاملان النظريان (الأميركي والإسرائيلي) تعززهما معطيات واقعية تعطل إمكانات بناء مشروع دولة «قابلة للحياة» من دون العمل على تفكيك تلك المعطيات التي أصبحت ظاهرة على الأرض. فالدولة لا يمكن أن تنهض على الوعود الكلامية وتوقيع الاتفاقات والأوراق. الدولة بحاجة إلى أرض وشعب، ومثل هذه المعادلة البسيطة تحاول تل أبيب تجاهلها والتهرب من الإجابة عن أسئلتها. وإدارة بوش التي أدركت بالملموس أن مشروع الدولة ليس فكرة نظرية بقدر ما يحتاج إلى آليات تنفذه ميدانيا أخذت تتهرب من الإجابة عن أسئلة واقعية تتصل بمصير ومستقبل تلك الأرض الفلسطينية التي يراد بناء دولة عليها.
تهرب إدارة بوش من الإجابة عن تلك الأسئلة المفصلية يؤكد عدم جدية واشنطن في تنفيذ وعد رئيسها مقابل عدم وجود رغبة إسرائيلية تسهل إمكانات بناء تلك الدولة.
كيف يمكن بناء دولة «قابلة للحياة» على أرض مزروعة بالمستوطنات وسياسة تقطيع أوصال الحياة الفلسطينية؟ بناء المستوطنات وتوسيعها الدائم قضم نحو 40 في المئة من الأراضي المحتلة في العام 1967. بناء جدار الفصل العنصري داخل الأراضي المحتلة وتمدده الأفقي كالأفعى بين القرى والبلدات والمناطق الزراعية والأحياء السكنية عزل الناس في «غيتويات» وعطل حركة المرور والتواصل بين الأهل والأقرباء. وتوسيع بناء الوحدات السكنية في القدس وجوارها معطوفا على ضم القرى المحيطة بالقدس إلى خراج البلدية ضاعف من مساحة مدينة يمنع على أهلها بناء منازل لإسكان أولادهم وعائلاتهم.
تقطيع الوقت
إلى كل هذا التوسع الاستيطاني، لجأت تل أبيب إلى بناء طرقات التفافية وجسور وأنفاق تربط المستوطنات مباشرة من دون حاجة إلى المرور في القرى والبلدات الفلسطينية، الأمر الذي زاد من نسبة الأراضي الملحقة بالاحتلال ومنع على الناس استخدامها أو استصلاحها لاعتبارات أمنية. فالذرائع الأمنية كثيرة وهي تفوق التصور النظري. الجدار العنصري تأسس لاعتبارات أمنية، والطرقات الالتفافية تم تشييدها لاعتبارات أمنية، وإقامة أكثر من 600 حاجز عسكري يفصل المناطق والمدن عن بعضها جاءت كلها تحت سقف ضبط الأمن ومنع الناس من التعاون بذريعة المحافظة على استقرار المستوطنين وعدم إزعاج حياتهم اليومية والمدنية.
كل هذه العوائق وغيرها من عقبات تتصل بالحاجة إلى المياه الصالحة للشرب أو للزراعة، فضلا عن الصعوبات اليومية في التنقل بين أمكنة العمل والسكن... تكشف عن سياسة أميركية - إسرائيلية لا تريد فعلا التوصل إلى الإعلان عن دولة فلسطينية «قابلة للحياة» قبل نهاية العام الجاري.
الوقائع الميدانية المعطوفة على المنهج النظري والتعامل اليومي مع ابسط حاجات الحد الأدنى من متطلبات الحياة كلها مؤشرات تدل على أن إدارة واشنطن لا تريد تسهيل الأمور لتنفيذ الوعد وإذا أرادت فإنها لا تفعل الشيء الكثير للتوصل إلى تحويل الإعلان إلى واقع. حتى حين تقدم الإدارة على فعل بعض الشيء فإن أفعالها تكون قليلة وصغيرة وعديمة الفاعلية ومتأخرة.
ماذا فعلت إدارة واشنطن بشأن جدار الفصل العنصري الذي يعزل القرى ويفرق البشر ويسجن الناس في معتقلات مفتوحة؟ ماذا فعلت إدارة بوش لمنع حكومة أولمرت من تنفيذ سياسة توسيع المستوطنات وزيادة مساحة بناء الوحدات السكنية؟ ماذا فعلت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس خلال زياراتها وجولاتها المكوكية بشأن رفع الحواجز وإزالة الأتربة والسواتر التي تعطل حياة الناس واتصالاتهم وتنقلاتهم اليومية؟ لا شيء. بل إن إدارة بوش قررت في الأسبوع الماضي زيادة المساعدات الاقتصادية والعسكرية واللوجستية والمالية لتل أبيب بمقدار ثلاثة مليارات دولار سنويا على مدار السنوات العشر المقبلة.
بعد أقل من عشرة أيام سيلتقي عباس مع أولمرت في البيت الأبيض في وقت أخذت المصادر المسئولة في حكومة تل أبيب تشكك بفاعلية الرئيس الفلسطيني وضعفه وعدم قدرته في إحكام سيطرته على الشارع وبالتالي عدم جدوى توقيع اتفاق مع سلطة يتوقع تفككها وانهيارها في الفترة المقبلة.
الكلام الإسرائيلي الذي ورد في تصريح لرئيس الدولة شمعون بيريز يشير إلى أن موضوع البحث في وعد بوش لا فائدة منه، لأن الأرض التي يجب أن تقوم عليها الدولة تآكلت وتم قضم 40 في المئة من مساحتها، كذلك فإن السلطة التي يجب أن تديرها وتحكم سيطرتها عليها ضعيفة وغير قادرة على القيام بدورها. وحين تصبح الأرض مصادرة من قبل الاحتلال والسلطة المراد تأسيسها عليها تفتقد إلى الشرعية ولا تمتلك قوة القرار... يصبح الكلام عن دولة فلسطينية «قابلة للحياة» مجرد كلام للتسويق ويراد منه تقطيع الوقت قبل نهاية عهد بوش.
الدولة الفلسطينية «القابلة للحياة» يرجح ألا تقوم قبل نهاية العام وإذا قامت لذر الرماد في العيون فإنها ستكون على الأرجح مقطعة الأوصال.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2130 - السبت 05 يوليو 2008م الموافق 01 رجب 1429هـ