في مثل هذه الأيام من كل عام وحينما تقترب أعياد الميلاد وخاصة تلك المتعلقة برأس السنة الميلادية، ويوم مولد نبي الله تعالى المسيح عيسى عليه وعلى نبينا وسائر الأنبياء أفضل الصلاة وأتم السلام، يتساءل كثير من الناس ويدور نقاش في بعض المنتديات والمجالس عن مشروعية تهنئة المسيحيين وغير المسلمين عموما بأعيادهم ومشاركتهم فيها، فكان لزاما بيان وإيضاح الرؤية الإسلامية لهذه المسألة بفكر ونهج معاصر، حتى يتضح الحكم الشرعي الصحيح ويزول أو يتقلص الخلاف.
لقد كان المسلمون ومازالوا يتميزون بين الأمم الأخرى بسماحة دينهم ويسر أحكام شريعتهم، وأنهم أصحاب حضارة سامية منفتحة على العالم تواكب متغيرات العصر، وتراعي ضرورات الحياة المستجدة، ومعطيات الواقع المعاصر.
كما أن المسلمين يضمنون الرحمة والمحبة والسلام والأمن والاطمئنان والأمان لكل إنسان مسالم مصداقا لقوله تعالى: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» ولقوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة» لذا علينا وعلى المسلمين ممن هم مؤهلون لتولي منصب الفتوى والاجتهاد والتوجيه والإرشاد أن يراعوا هذه المقاصد والغايات العليا لشريعتنا الغراء فيما يصدر عنهم من فتاوى وآراء وأحكام اجتهادية مبنية على أدلة وحجج ظنية من أن دعوة الإسلام، هي دعوة عالمية جاءت لتبني حضارة إنسانية ليست خاصة بقوم معينين أو بقطر محدد، تُعنى بنشر الأخلاق النيبلة وترسيخ ثقافة التسامح، في غير عنف ولا تشدد ولا تعصب ولا تزمت ولا كراهية، التي قد يؤصل لها بعض المسلمين - هداهم الله تعالى - ربما عن حسن نية أو غير قصد، عندما يسارعون بإطلاق عبارات وألفاظ التحريم على كل ما هو جديد، وما قد يجر ذلك من اتهام المسلمين عموما بأنهم انعزاليون انكفائيون، بل إرهابيون متطرفون لا يملكون روح التسامح والتعايش والانفتاح على الآخرين، ويفتقرون إلى أدوات حسن التعامل مع غيرهم، في قضايا ومسائل لا تحتاج إلى كل هذا التصلب والتشدد، وبخاصة إذا كان في الأمر سعة والمسألة فيها أكثر من مذهب، ومبنية على أدلة ظنية الدلالة، أي أنها تحتمل أكثر من رأي كما في قضية تهنئة المسيحيين وغير المسلمين عموما بأعيادهم ومشاركتهم فيها، مع عدم وجود نص شرعي صريح صحيح يمنع من ذلك، لذلك لا بأس في تهنئة المسيحيين وغير المسلمين بأعيادهم، لمن كان بينه وبينهم صداقة أو صلة قرابة أو جوار أو زمالة، أو غير ذلك من العلاقات الاجتماعية والروابط الإنسانية، التي تقتضي حسن الصلة، ولطف المعاشرة ودماثة التعامل مع غير المسلمين التي يقرها الشرع الحنيف والعرف السليم.
وكذلك الأعياد الوطنية - أو الأيام الوطنية على الأصح - والاجتماعية، مثل العيد الوطني، ويوم الاستقلال، أو يوم الوحدة أو يوم الطفولة والأمومة ويوم المرأة، وعيد العمال، وكذا عيد «الكريسماس» أو عيد رأس السنة الميلادية ونحو ذلك، فلا مانع أن يهنئهم المسلم بها، بل يشارك فيها إذا خلت من المحرمات والمحظورات بشرط تجنب المحرمات كما أسلفنا التي تقع في تلك المناسبات علما بأن هذه قضية حساسة ومهمة، وخصوصا للمسلمين المقيمين في بلاد الغرب، الذين يعيشون في تلك الديار كمواطنين أو مقيمين، ويعايشون أهلها من غير المسلمين، وتنعقد بينهم وبين كثير منهم صلاة، وتتوثق روابط تفرضها الحياة، مثل المصاهرة والجوار في المنزل، والرفقة في العمل، والزمالة في الدراسة، وقد يشعر المسلم بفضل غير المسلم عليه في ظروف معينة مثل المشرف الذي يساعد الطالب المسلم في دراسته بإخلاص، والطبيب الذي يعالج المريض المسلم بإخلاص، وغيرهما، وكما قيل: إن الإنسان أسير الإحسان، وقال الشاعر:
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسان إحسان
لذا ينبغي أن يكون موقف المسلم من هؤلاء (غير المسلمين) المسالمين له، الذين لا يعادون المسلمين، ولا يقاتلونهم في دينهم، ولم يخرجوهم من ديارهم أو يظاهروا على إخراجهم، متسامحا معهم منفتحا عليهم ومتعايشا معهم، ومتوافقا مع ما وضعه القرآن الكريم من دستور العلاقة بين المسلمين وغيرهم فقد جاء في كتاب الله تعالى في آية من سورة (الممتحنة) وقد نزلت في شأن المشركين الوثنيين، قال تعالى: «لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلونكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين» سورة الممتحنة (8)، فالمسالمون من الناس، شرعت الآية الكريمة برهم والإقساط إليهم، و»القسط» يعني: العدل، و»البر» يعني: الإحسان والفضل، وهو فوق العدل، فالعدل: أن تأخذ حقك، كما أن العدل أو القسط: أن تعطي الشخص حقه لا تنقص منه، والبر: أن تزيده على حقه فضلا وإحسانا، والملفت للنظر أن القرآن قد اختار للتعامل مع المسالمين كلمة «البر» حين قال: (أن تبروهم) وهي نفس العبارة المستخدمة في أعظم حق على الإنسان بعد حق الله تعالى، وهو بر الوالدين، وهو أمر يدعو للتأمل وقد روى الشيخان عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - أنها جاءت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقالت: يا رسول الله، إن أمي قدمت علي وهي مشركة، وهي راغبة (أي في صلتها والإهداء إليها) أفاصلها؟ قال: صلي أمك) (متفق عليه). هذا؛ وهي مشركة ومعلوم أن موقف الإسلام من أهل الكتاب جلي وواضح، وهو جواز التعامل والتواصل معهم. حتى أن القرآن الكريم أجاز موءاكلتهم ومصاهرتهم، بمعنى أن نأكل من ذبائحهم ونتزوج من نسائهم، كما جاء ذلك منصوصا عليه في القرآن الكريم، قال تعالى في سورة المائدة «وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم، وطعامكم حل لهم، والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» آية رقم (5).
ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: وجود المودة بين الزوجين، كما قال تعالى: «ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة» سورة الروم رقم (21). وكيف لا يود الرجل زوجته وربة بيته وشريكة عمره وأم أولاده؟ وقد قال تعالى في بيان علاقة الأزواج بعضهم ببعض: «هن لباس لكم وأنتم لباس لهن» سورة البقرة رقم (187). ومن لوازم هذا الزواج وثمراته: المصاهرة بين الأسرتين، وهي إحدى الرابطتين الطبيعيتين الأساسيتين بين البشر، كما أشار القرآن بقوله: «وهو الذي خلق من الماء بشرا فجعله نسبا وصهرا» سورة الفرقان (54)، ومن لوازم ذلك: وجود الأمومة وما لها من حقوق مؤكدة في دين الإسلام، فهل من البر والمصاحبة بالمعروف أن تمر مناسبة مثل هذا العيد الكبير عندها ولا يهنئها به؟!
وما موقفه من أقاربها - أقارب أمه - وذوي رحمها، وهؤلاء لهم حقوق الأرحام والقرابة؟ وقد قال تعالى: «وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله» سورة الأنفال (76). وقال تعالى: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى» سورة النحل (91)، فإذا كان حق الأمومة والقرابة يفرض على المسلم والمسلمة صلة الأم والأقارب بما يبين حسن خلق المسلم أن يظهر بمظهر الإنسان ذي الخلق الحسن، وقد أوصى الرسول الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم أبا ذر رضي الله عنه بقوله: «اتق الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن» (قال الترمذي: حسن صحيح). هكذا قال: (خالق الناس) ولم يقل: خالق المسلمين بخلق حسن.
كما حث النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على (الرفق) في التعامل مع غير المسلمين، وحذر من (العنف) والخشونة في ذلك، ولما دخل بعض اليهود على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ولووا ألسنتهم بالتحية، وقالوا: «السام عليك يا محمد ومعنى السام: الهلاك الموت، وسمعتهم عائشة رضي الله عنها فقالت: وعليكم السام واللعنة والهلاك يا أعداء الله، فلامها النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ذلك، فقالت ألم تسمع ما قالوا يا رسول الله؟ فقال: سمعت، وقلت: وعليكم (يعني: الموت يجري عليكم كما يجري علينا) يا عائشة: «إن الله يحب الرفق في الأمر كله» متفق عليه.
وتتأكد مشروعية تهنئة القوم بهذه المناسبة، إذا كانوا يبادرون بتهنئة المسلم بأعياده الإسلامية، فقد أمرنا أن نجازي الحسنة بالحسنة، وأن نرد التحية بأحسن منها، أو بمثلها على الأقل، كما قال تعالى: «وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها، أو ردوها» سورة النساء (86)، ولا يحسن بالمسلم أن يكون أقل كرما، وأدنى حظا في حسن الخلق من غيره، والمفروض أن يكون المسلم هو الأوفر حظا، والأكمل خلقا كما جاء الحديث: «أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا» من رواية الترمذي وهو صحيح. وكما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) حديث صحيح.
ويتأكد هذا إذا ما أردنا أن ندعوهم إلى الإسلام ونقربهم إليه، ونحبب إليهم دين الإسلام والمسلمين، وهذا واجب علينا، ولا يتأتى بالتجافي بيننا وبينهم، بل بحسن التواصل والتعايش الإنساني الحضاري معهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخلق كريم (المعشر) مع المشركين من قريش، طوال العهد المكي، مع إيذائهم له، وتكالبهم عليه، وعلى أصحابه، حتى أنهم - أي المشركين؛ لثقتهم به عليه الصلاة والسلام - كانوا يودعون عنده ودائعهم وأمانتهم الثمينة والغالية التي يخافون عليها، حتى أنه صلى الله عليه وسلم حين هاجر إلى المدينة، ترك عليا رضي الله عنه، وأمره برد الأمانات والودائع إلى أهلها، حتى عرف صلى الله عليه وسلم من هذه السجية بالصادق الأمين.
ومن خلال ما رأيناه ولمسناه من مباديء ومقاصد شريعتنا الغراء، فلا مانع إذا من أن يهنئ المسلم غير المسلم بهذه المناسبة، مشافهة أو بالبطاقات التي لا تشتمل على شعار أو عبارات دينية تتنافى وتتعارض مع مبادئ الإسلام.
والكلمات المعتادة للتهنئة في مثل هذه المناسبات، لا تشتمل - عادة - على أي إقرار لهم على دينهم، أو رضا بذلك، كما قد يتصور البعض، وإنما هي كلمات مجاملة وتقدير واحترام تعارفها الناس، ولا مانع أيضا من قبول الهدايا منهم، ومكافأتهم عليها، فقد قبل النبي صلى الله عليه وسلم هدايا من غير المسلمين، مثل المقوقس عظيم القبط بمصر وغيره، بشرط ألا تكون هذه الهدايا مما يحرم على المسلم كالخمر ولحم الخنزير وغيرهما.
فلا بأس إذا من تهنئة المسيحيين وغيرهم بأعيادهم ومشاركتهم فيها وخصوصا لمن كان بينه وبينهم صلة قرابة أو مصاهرة أو جوار أو زمالة، أو غير ذلك من العلاقات الاجتماعية، التي تقتضي حسن الصلة، ولطف المعاشرة والتعامل بالتي هي أحسن التي يقرها الشرع الحنيف والعرف السليم.
أما ما يتعلق بالأعياد الوطنية والاجتماعية، مثل العيد الوطني ويوم الاستقلال أو الوحدة أو الطفولة والأمومة ونحو ذلك، فليس هناك أي حرج على المسلم أن يهنئ بها، بل يشارك فيها، بشرط تجنب المحرمات التي تقع في تلك المناسبات، نقول بجواز ذلك باعتبار أن الدين الإسلامي هو دين المعاملة والمحبة والرحمة والتسامح والتعايش والتحاور مع الآخر، وكما جاء في الأثر: (إنما الدين معاملة)، وبناء أيضا على أن الأصل في الأشياء الإباحة كما نص الفقهاء رحمهم الله
إقرأ أيضا لـ "الشيخ فريد بن يعقوب المفتاح "العدد 2303 - الخميس 25 ديسمبر 2008م الموافق 26 ذي الحجة 1429هـ