بسبب علاقات التجاذب بين السلطنة والغرب والمخاوف المتبادلة بينهما تبلور الفكر القومي الحديث كنسيج سياسي مقطع وملون طائفيا ينسجم مع تنوع النخب والكتل المثقفة. ظهر الفكر القومي في حالات غير موحدة تعكس لحظة انقسام السلطنة وبداية تفكك نموذج الدولة السلطانية، وظهور أشكال هلامية من نموذج الدولة القومية الحديثة. آنذاك لم ينجح الفكر القومي الحديث في صوغ تصوره وبدائله وفشل في التحول إلى حركة تاريخية - جماهيرية فاقتصر نشاطه على الانتلجنسيا التي كانت أصلا منقسمة دينيا وطائفيا ومذهبيا وتنظر إلى البديل القومي نظرات مختلفة تنسجم مع مواقعها التقليدية ومصالحها المحلية. وهو أمر يفسر مشهد الحراك الديني (أحمد فارس الشدياق) والحراك المذهبي (بطرس البستاني) وانتقال عائلات لبنانية من دين إلى دين أو مذهب إلى مذهب.
وسط تجاذب النخب وانشداها إلى تيارات فئوية انفجرت الحرب العالمية الأولى في العام 1914 بطلقة يتيمة في سراييفو فانحاز ضباط الباب العالي إلى ألمانيا وانحاز الشريف حسين إلى الحلفاء واستغلت اسطنبول ظروف الحرب فألغت نظام المتصرفية في جبل لبنان وألغت معه نظام الحمايات ومعاهدة «الامتيازات الأجنبية» بعد 378 سنة من توقيعها مع فرنسا.
جاءت خطوات الباب العالي متأخرة جدا إذ أعلن الشريف حسين في يونيو/ حزيران 1916 الثورة العربية ضد الأتراك ورفع راية الإسلام واتهم ضباط «الاتحاد والترقي» بالخروج على الدين واتهمت اسطنبول الشريف حسين بأنه خُدع بالوعود البريطانية وهو مجرد أداة لهدم السلطنة. وانقسمت النخب في سورية ولبنان وارتفعت المشانق التركية في بيروت ودمشق وقضت على عشرات الكوادر السياسية والمثقفة من مسيحيين ومسلمين بتهمة التعامل مع الأجنبي وتسهيل خططه.
بعد 1916 انحصر نفوذ السلطنة وتراجعت هيبتها بعد هزيمتها على يد قوات الحلفاء في قناة السويس وفلسطين. في تلك الفترة غيّر حزب «العربية الفتاة» اسمه إلى حزب «الاستقلال» ورفع راية الوحدة العربية كبديل عن الوحدة العثمانية واستمر ينشط إلى ما بعد نهاية الحرب العالمية الأولى في العام 1918 لكنه ضعف وتبعثر لاحقا. وعقد في مارس/ آذار 1920 المؤتمر السوري العام في «النادي العربي» في دمشق وأعلن اللامركزية العربية واستقلال سورية وضمان حقوق الأقليات وإنشاء لجنة خاصة لإدارة شئون جبل لبنان.
جاء المؤتمر السوري محاولة أخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وفي لحظة انقلاب كبير في موازين القوى الدولية، فانتهى إلى فشل ذريع. فالسلطنة انتهت عمليا مع نهاية الحرب العالمية الأولى ونجحت قوات الحلفاء في احتلال مواقعها في المشرق العربي وتم الاتفاق البريطاني - الفرنسي (معاهدة سايكس - بيكو) على اقتسام المنطقة وتقسيمها في 1916، وصدر وعد بلفور في 1917 الذي نص على إعطاء فلسطين كوطن قومي لليهود.
لبنان الكبير
حتى سبتمبر/ أيلول 1920 لم يكن لبنان بحدوده السياسية الدولية الراهنة قد أعلن. وبقيت صيغته معلقة بعد إلغاء اسطنبول نظام المتصرفية في الجبل إلى أن لاحظت القوى السياسية التي عقدت المؤتمر السوري في دمشق وجود خصوصية للجبل وقررت تداركا للأمر إنشاء «لجنة خاصة» لإدارة شئونه في إطار دولة عربية مستقلة وكبيرة.
بعد سبعة أشهر من المؤتمر السوري أعلنت سلطات الانتداب الفرنسي «دولة لبنان الكبير» وشكل الإعلان صدمة كبيرة للنخب فانقسمت بين معارض ومؤيد ومتحفظ وموافق بشروط وتداخلت مجددا المشاعر الدينية بالتطلعات السياسية وانشقت الطوائف على نفسها وبين بعضها وأعيد تركيب السياسة على مصالح الطائفة.
دامت فترة المصالحة بين العرب والغرب مدة أربع سنوات فقط، وهي الفترة الفاصلة بين الثورة العربية في الجزيرة وسقوط حكومة فيصل في دمشق، تعرضت خلالها العلاقات إلى اهتزازات كثيرة وتم النكث بالوعود التي قيل إنها أعطيت للشريف حسين مثل ضمان الاستقلال العربي بعد رحيل القوات التركية.
بسبب هذا التوتر عادت مرة أخرى فكرة المؤامرة إلى واجهة التحليل السياسي وأعيد مجددا ربط التحديث بسياسة الغرب التقسيمية وارتفعت ايديولوجية العداء للغرب الذي «لا يريد للعرب التقدم والوحدة». في هذا الجو المأزوم ازداد تشدد تيار العداء للتغريب في وسط الكتل المسلمة وتراجع بعضها عن مقولات التحديث، في وقت كانت الدول المنتصرة في الحرب قد أنهت اتفاقها على إخضاع المنطقة إلى فترة انتقالية انتدابية.
ترافقت الخطوات الدولية مع اندثار السلطنة، كمركز تقليدي للعالم الإسلامي، وانفتح بعدها باب الصراع بين النخب على تحديد الهوية الجديدة. وهو أمر يشبه كثيرا في خصوصيته ما شهدته الجماعات والشعوب والأقوام التي نهضت تتقاتل بعد انهيار مظلة الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي.
تفكك السلطنة آنذاك أدى إلى ذر الجماعات والولايات العثمانية إلى كتل متناحرة ومتخاصمة تداخل معها وعي مستحدث ارتبط بنشاط الإرساليات ومدارسها إلى وعي سلبي مضاد يسترجع ذكريات الماضي والمؤامرة الدولية التي حيكت لإجهاض عودته. فالتحديث تاريخيا بدأ في المشرق العربي وجبل لبنان في نقاط ضعف السلطنة واخترقها من مسام النخب المثقفة وفتحات الأقليات والمذهبيات وهو أمر ساهم لاحقا في قطع الطريق عليه ومنع تواصله وانتقاله إلى المجموعات الأكثرية. وبقي التحديث سمة وعي نخبوية التصقت بفئات معينة سياسية أو ثقافية أو مذهبية وتسمّر بها إلى حين، فانعزل بسببها عن الحلقات الأخرى في المجتمع.
بسبب هذه النشأة التاريخية المأزومة ولد الفكر القومي الحديث في المنطقة، وجبل لبنان تحديدا، مفككا. وانسجم زمنيا مع تفكك الجماعات والمجموعات فاختلط أحيانا بالطائفي والمذهبي وأحيانا أخرى بالديني والمحلي. ولأنه بدأ في النخبة وسقط من فوق إلى تحت لم يتحول لحظة انهيار السلطنة إلى حركة اجتماعية - تاريخية تصعد من تحت إلى فوق كما حصل الأمر في أوروبا.
أعطت «نخبوية» الفكر التحديثي البراهين والقرائن وقوة الدفع لتيار الاعتراض على التغريب إذ جاءت الحوادث لتؤكد أن هدف التحديث هو تفكيك الأمة لا توحيدها وإضعاف مركزها من خلال سلخ أطرافها وربط كل طرف بالخارج ومنعه من التواصل مع الداخل
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2303 - الخميس 25 ديسمبر 2008م الموافق 26 ذي الحجة 1429هـ