أتيحت لي فرصة المشاركة في زيارة علمية إلى هولندا بدعوة من نادي مدريد والمؤسسة الهولندية للديمقراطية التعددية. وقد شارك في هذه الزيارة شخصيات أكاديمية وممثلون عن المجتمع المدني في البلدان العربية التي يشملها برنامج نادي مدريد للحوار الديمقراطي، وهي: المغرب، وتونس ومصر والأردن والبحرين، فيما تغيّب ممثل السعودية. ويعرف القراء دور نادي مدريد في مملكة البحرين من حيث اضطلاعه بتنظيم حوارات ثلاثية تضم ممثلي الحكومة والسلطة التشريعية والمجتمع المدني خلال الزيارات الثلاث التي قامت بها وفود عالية المستوى تمثل نادي مدريد إلى مملكة البحرين خلال 2007 و2008.
قُصد بهذه الزيارة العلمية التعرف عن قرب على نظام الحكم في هولندا، وتنظيمات المجتمع المدني، والعلاقة فيما بين مؤسسات الحكم ومؤسسات المجتمع المدني، وعملية إدماج المهاجرين والأقليات الدينية والعرقية في المجتمع. وحيث أنه من الصعب عرض جميع ما دار في هذه الزيارة فإننا سنكتفي بعرض ما هو مفيد لنا كعرب بشكل عام، وكبحرينيين من التجربة الهولندية.
يذكر أن سكان هولندا بحدود 16.3 مليون ومساحتها 486 ألف كلم مربع، أي أنها من أصغر الدول الأوروبية مساحة وسكانا، ولكن دخلها القومي يتجاوز دول مجلس التعاون. وهولندا تتمتع بنظام سياسي واقتصادي ناجح، وهي في مقدمة الدول التي تتمتع بمؤشرات عالمية عالية في الرفاه واحترام حقوق الإنسان، والكفاية والنزاهة ومستوى المعيشة. ومن المفيد ذكره أن لهولندا مواقف مشرفة تجاه حقوق الإنسان على امتداد العالم، ولهذا اختيرت مقرا لمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية ومحاكم العدالة الدولية المؤقتة، كتلك التي أقيمت لمحاكمة مجرمي الحرب في رواندا والبوسنة والهرسك.
تعتبر هولندا كيانا سياسيا حديثا نسبيا، فقد توحّدت لأول مرة في ظل الاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون في 1800، وصدر أول دستور لها في 1848، فيما ظهر أول حزب سياسي في 1879، وأنشئ البرلمان ليقتسم السلطة مع الملك أو الملكة مع صدور أول دستور.
ولقد عانت هولندا ما نعانيه من انقسام طائفي، إذ خضعت للاستعمار الأسباني لأكثر من مئة عام الذي فرض المذهب الكاثوليكي، وطبع التعليم بمختلف مراحله من الابتدائية حتى الجامعة بطابع كاثوليكي. وعندما اجتاح نابليون أوروبا ومنها هولندا وأنهى بذلك الاحتلال الأسباني نظر إليه الهولنديون بوصفه محررا، وتأثروا كثيرا بمبادئ الثورة الفرنسية في الحرية والمساواة والعدالة، والتحرر الديني. وأحد نتائج ذلك تحول الكثيرين إلى المذهب البروتستانتي. ومنذ بداية القرن التاسع عشر كان المذهبان الكاثوليكي والبروتستانتي في تنافس، ولهذا فإن من أهم التحديات التي واجهت هولندا ولاتزال تعايش أتباع المذهبين، والفصل ما بين الدولة والمؤسسات الدينية، وخصوصا المؤسسات التعليمية التي يتبع غالبيتها المؤسسات الدينية لكلا المذهبين، وأضيف إليهما المدارس الإسلامية حاليا. إذا، كان من أكبر التحديات أمام النظام السياسي الهولندي ما يأتي:
1 - تأكيد حق الانتخاب والمشاركة السياسية للمواطنين في ظل نظام ملكي دستوري، وقد تحقق ذلك تدريجيا بمنح الرجال حق التصويت، ثم منح النساء هذا الحق، وتشكيل الأحزاب، وتعزيز سلطة البرلمان والمؤسسات الدستورية الأخرى، بحيث أضحى الملك وحاليا المملكة بياتريس رأسا للدولة وحكما، وليس حاكما بين السلطات.
2 - حقوق متساوية للمؤسسات التعليمية الدينية (الكاثوليك والبروتستانت والمسلمين) بحيث تتبع منهاجا دراسيا وطنيا، وتقدم دروسا دينية محدودة مقابل تمويلها من قبل الدولة والتأكد من مستواها التعليمي.
3 - دمج الاتحادات النقابية العام 1980، حيث ظلت حتى حينها منقسمة دينيا.
4 - تطوير النظام الاقتصادي الاجتماعي، بحيث جرى تعزيز الحريات والحقوق والضمانات الاجتماعية للمواطن مقابل خطر هيمنة الدولة والرأسمالية المتوحشة... وسنرى أنه إلى جانب البرلمان، توجد مؤسسات كالحارس القضائي (ombudsman)، والنقابات وجماعات الضغط، والقضاء المستقل التي تحمي المواطن والمقيم وتصون الحريات العامة، وتكافح الفساد والاحتكار وتعزز الشفافية والنزاهة.
5 - تطوير النظام الانتخابي ليعكس إرادة المجتمع بمختلف تشكيلاته، وبحيث لا تطغى الأكثرية على الأقلية. هولندا مقسمة إلى 17 محافظة لكلٍّ مجلسها المحلي المنتخب، وتجري الانتخابات هنا على أساس الدائرة الفردية. وهولندا دائرة انتخابية واحدة في الانتخابات البرلمانية لـ 150 نائبا كل أربع سنوات، حيث تتنافس الأحزاب ضمن قوائم، وتكون حصة كل حزب حسب نصيبه من الأصوات. كما يحق للمقيمين ممن مضى على إقامتهم أكثر من 5 سنوات التصويت والترشيح للمجالس المحلية. ويلاحظ هنا أن هناك أحزابا دينية مثل الاتحاد المسيحي (اليميني) والحزب الديمقراطي المسيحي (وسط) تضم كاثوليك وبروتستانت، ويوجد أيضا حزب إسلامي، ولكن دور الأحزاب الدينية في انحسار.
6 - رغم عدم اعتماد «الكوتا» فإن النظام السياسي تطور بحيث يلاحظ دور كبير للمرأة في العمل السياسي، فللنساء نصيب كبير في تشكيل الحكومة وقيادة الأحزاب والنقابات والمجالس المحلية والقضاء وغيره.
لقد أدى ازدهار الاقتصاد الهولندي إلى الحاجة للعمالة الأجنبية التي يتجاوز عددها المليون. وإذا كانت الهجرة بدأت بأبناء المستعمرات الهولندية السابقة مثل أندونيسيا وسيرنام وغيانا الجديدة فإن الهجرة بعد الحرب العالمية الثانية شملت العرب والأتراك، ثم شملت مواطني أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك النظام الاشتراكي في 1991.
أما كيف نجحت هولندا في دمج هؤلاء المهاجرين من مختلف القوميات والديانات والثقافات، حيث أضحى غالبيتهم مواطنين، فهو ما سنبحثه في الحلقة القادمة.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 2129 - الجمعة 04 يوليو 2008م الموافق 29 جمادى الآخرة 1429هـ