لنكن صريحين وواضحين جدا، وذلك من حيث المبدأ، تجاه أية خطوة رسمية قد تتخذ لمعاقبة ومراقبة المواقع الإلكترونية ومختلف وسائل الإعلام التي تثير الطائفية وتشجع على تبني الطرح الطائفي المحاصص في ما يهدد الاستقرار العام للمجتمع، وإن تأخرت كثيرا فإنما هي جهود ضرورية ولازمة لكبح أثرها المدمر والتضييق عليها، وإن كان تضييقا منعدم الجدوى بسبب الخصوصية الظرفية للمرحلة الزمنية الراهنة، ومن دون ذلك لا يمكن أن تستقيم الأمور في أية منظومة معينة دون وجود أدوات ضبط وعنف شرعي.
ولكن وقبل أي استعجال هنالك عدد من الملاحظات الساخنة التي لابد من منحها كامل الاهتمام إذا ما أريد لمثل هذه الجهود التنظيمية والتنسيقية أن تنجز كامل أهدافها المعلنة فيما يتعلق بانتزاع بوادر الإثارة الطائفية، وإن بات هذا الفعل الأخير في بحريننا يقدر بعملية تنقية البحر من الزبد فيما يتعلق بالحجم الحقيقي للأزمة الطائفية في البلاد كما سنوضح ذلك لاحقا!
ورغم ما تحققه الإثارة الطائفية من حساسيات أمنية بالغة بطبيعة الحال السوية لكونها تستهدف الاستقرار العام للدولة والوحدة الوطنية التي يتكفل الدستور بحمايتهما وتقديسهما إلا أنه إذا ما أريد لتلك الجهود المؤسسية أن تنجح فلابد أن يتم من خلالها مراعاة تحديد المسئوليات الرئيسية والاختصاصات بدقة ومرونة بين كل الأجهزة الرسمية في سبيل ضبط وردع المتسببين بالإثارة والتحريض الطائفي. وإن كنت لا أظن أن مسألة حساسة وخطيرة لن يجدي ويفلح معها أبدا اتباع أساليب الاعتقالات الخاطفة والتحقيقات المغلقة ليس إلا لكونها تسهم في تضخيم المأزق والتأزيم الطائفي، مهما كانت النوايا وراء ذلك، وكأنما هي أشبه بتصفية الحسابات السياسية، وبذلك تستعيد سيناريو كريه في ذاكرة الشعب البحريني يرتبط بـ «زوار الفجر» وغيرها من العلامات المأساوية للمراحل الغابرة والمنصرمة، فالأولى بالتالي أن تتم مراعاة أقصى درجات الشفافية وأن تتولى الجهة المختصة عرفيا وقانونيا بمتابعة مثل هذه القضايا بدلا من تحييد الاختصاصات وتشوشها أمام تلك التأزيمات العبثية الخطيرة!
هنالك حاجة جذرية تتعلق ضمن هذا المجال بضرورة تجنب خلط المفاهيم والمسميات، وتجنب استخدام وتوجيه التهم الفضفاضة إلى المتهمين، ومنها على سبيل المثال تهمة «التحريض على كراهية النظام وازدرائه»، وهي تهمة فضفاضة بلا شك قد تستوعب وتدق أجراس الإنذار في المجتمع وبين الأفراد باعتبارها ضربا جديدا من ضروب تكميم الأفواه والترهيب للأصوات الناقدة والمعارضة بمسئولية، فيبدو من الممكن والمنطقي جدا حدّ السخرية القدرية أن توجه هذه التهمة لمريض يتذمر وينتقد بشدة تأخر وتعرقل نظام المواعيد والخدمات طبية في إحدى المراكز الصحية والمستشفيات الحكومية، كما هي توجه بالمثل إلى من يشتم ويجرح علنا في رموز هذا البلاد!
ومن المحتم لنجاح تلك الجهود أن توضح رسالة معينة «Message» للمواطنين تتعلق بأنها لا تستهدف الطوائف بذاته وإنما هي تستهدف الإثارة الطائفية، وبالتالي هي في دورها إنما تشكل حماية وضمانة منجزة للتنوع الطوائفي والاجتماعي والإثني الطبيعية ضد تنمر واستئثار مريض من قبل جماعة أو فئة سياسية أو أفراد طائفيين بآخرين على حساب العلاقات المواطنية المؤسسة والمصلحة العامة للدولة والمجتمع، فهم ليسوا موعودين بـ «شمولية» أو «توليتارية قهر وطني» من بعد رخاء «ليبرالية طائفية»!
وبالتالي لابد أن تكون هذه الجهود متوازنة وموجهة بالتساوي والإنصاف تجاه كل من تسول له نفسه إثارة الفتنة الطائفية والنعرات العنصرية، سواء أكان فتى غرا أم نائبا وممثلا برلمانيا أم مسئولا كبيرا أم متنفذا عسى ألا تكون هنالك انحيازات استغلالية سياسية مسبقة وموجهة تمكن فلسفة «القوانين توضع لتنتهك وتخترق»، وتزيد من أزمة فقدان الثقة بين جميع الأطراف في المجتمع والبلاد فيزداد الطين بلة ساخنة!
ومثلما أسلفنا فإن التحدي الكبير الماثل أمام جهود ردع ومحاسبة مثيري الفتنة الطائفية هي في كونها تعمل ضمن عمق تكوينات وأنسجة وتمفصلات تاريخية لمحاصصة طائفية منظمة وممأسسة ومتواشجة بقوة مع أجواء مشحونة بالتوتر الاستقطابي والتأزيمي بين الدولة والمجتمع، وإن كانت المعارضة الطائفية ذات مسئولية ظرفية فالدولة في النهاية تتحمل المسئولية التاريخية الأكبر في ترسيخ وتأثيل طائفية المشهد الاجتماعي والسياسي كما لو أنها أعراف وقواعد ناظمة وبالتالي يكون لا مناص أمام المراقب والمطلع والمحلل من تناول مكونات المشهد السياسي والاجتماعي بمنظار طائفي مهما ازداد مقته له، فهنالك قانون توزيع الدوائر الانتخابية المتهم شعبيا بالنزوع الطائفي، وهنالك لوثة التجنيس السياسي المنهجي، وهنالك واقع محاصصة في توزيع المناصب الكبرى بالأجهزة الرسمية يساهم على المدى البعيد في إيجاد وقائع من التنافر السياسي الفئوي والطائفي داخل هياكل هذه المؤسسات فيما يؤثر على إنتاجيتها ومهامها، بالإضافة إلى السماح بتكوين تنظيمات وأحزاب سياسية على أسس طائفية وإثنية، وبالتالي تظل تهمة «الإثارة الطائفية» و«التحريض الطائفي» في هذه الحالة لغزا وهاجسا عائما ومغرقا في التلوث الواقعي - الوقوعي، وهنا بالتالي وجب التركيز تكتيكيا في هذه المرحلة الحساسة بالذات على جهود محاربة ومكافحة الإثارات والتحريضات الطائفية التي تستهدف عقائديا مذهبا من المذاهب، وتحرض على الكراهية العنصرية تمهيدا للانتقال إلى مكافحة الإثارة والمحاصصة الطائفية السياسية، وهنالك بالتالي حاجة قصوى لمشاريع إصلاح تشريعي وبنيوي قد تتزامن مع أية مبادرة لانتزاع الإثارة الطائفية وخصوصا حينما تقابل مفاهيم وأفكار قوامها أن المواطن المثالي والبحريني النبيل والفاضل هو الذي حينما يتولى منصبا يتوسط ويمكّن «جماعتنا» على حساب «جماعتهم»، وهو من «بديهيات التنمية والتقدم الاجتماعي» لدى البعض!
هذه الجهود الرسمية مهما كانت منطلقاتها ستواجه في بحريننا عالما حيث لا سياسة ولا دين إلا العربدة الطائفية، فلا سياسة تصل بالفرقاء إلى كلمة سواء جامعة وتوحد مجهوداتهم وآمالهم وطموحاتهم في صيغة وطنية موحدة، ولا دين يعلمهم الحب والتقوى الصافية وقول الحق دون تلون وعدوان!
ولا أدري إن كان من المناسب في السياق ذاته أن أقترح على الإخوة في «الإعلام» أن يستنسخوا برنامجا تلفزيونيا حيا شبيها بالبرنامج الأميركي الشهير «Moment of Truth» الذي يوجه أسئلة إلى عدد من المتسابقين عن العلاقات والأمور العاطفية الخاصة باستخدام جهاز كشف الكذب، ويكون الرابح بينهم لمبلغ مالي محترم أكثر من يجيب بأسئلة صادقة ولو تسبب له ذلك بإحراج أمام الجماهير، وأرى ضرورة استبدال موضوعات العلاقات العاطفية الفاضحة التي لا تناسب مجتمعنا بموضوعات تتعلق بالمواقف الشخصية والآراء عن الطائفية ضمن النسق والمطاف ذاته، فما نحن بحاجة إليه إنما هو المصارحة والمصارحة والمصارحة حتى نزدد ألقا!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2129 - الجمعة 04 يوليو 2008م الموافق 29 جمادى الآخرة 1429هـ