لاتزال الوقائع والحوادث تؤكّد لنا أنّه ليس للولايات المتّحدة الأميركية سياسة خارجيّة أميركيّة، وإنّما سياسة إسرائيليّة مع كلّ دول المنطقة. وآخر ذلك، إيقاف صفقة سلاح أميركيّة مع لبنان، والتي تقدّر بـ 400 مليون دولار، تحت ضغطٍ إسرائيليّ، بحجّة أن الجيش اللبناني لا يمثّل الجهة التي يُمكن الاعتماد عليها. واكتفت الإدارة الأميركية بتكثيف برامج التسليح للجيش اللبناني بالسلاح الخفيف، إضافة إلى التدريب. ومن اللافت أن بعض الدول العربية زوّدت هذا الجيش بعدد من المروحيات من دون تزويدها بأنظمة إطلاق الصواريخ، خوفا من اعتراض أميركا على ذلك؛ لأنّه لا يُراد للبنان - أميركيا وإسرائيليّا - أن يملك القوّة التي يستطيع من خلالها أن يدافع عن نفسه بالسلاح الصاروخي ضد عدوان «إسرائيل».
ولنا أن نضع تساؤلا برسم كلّ العقلاء في لبنان وخارجه: هل من المقبول أمام كلّ العراقيل التي توضع أمام تقوية الجيش اللبناني ليكون في موقع الدفاع عن الأرض والإنسان، إضافة إلى أنّه إلى الآن لم يصدر عن مجلس الأمن قرار وقفٍ لإطلاق النار منذ عدوان يوليو/ تمّوز 2006، وأمام كلّ الحماية الدوليّة التي وصلت إلى حدّ التواطؤ مع الكيان الغاصب، ممّا لا يمنع مستقبلا أية حركة عدوانيّة على لبنان، للثأر من هزائمها المتتالية، أو لفرض الاستسلام على هذا البلد أمام كلّ الأطماع الصهيونيّة؛ هل من المقبول والمنطقيّ أن يُتحدّث، في ظلّ هذا الوضع، عن سلاح المقاومة الذي يملك مواجهة أيّ عدوانٍ إسرائيليّ على لبنان، وعرف اللبنانيّون تجربة المقاومة منذ 1982 وصولا إلى العام 2000 وانتهاء بتجربتها الرائدة في يوليو 2006؟
أم لعلّ البعض لايزال يرى أن لبنان ليس دولة حرب في الدفاع عن حدوده؛ لأن قوته في ضعفه، في الوقت الذي يعرف الجميع أن المجتمع الدولي لم يتدخّل في أيّة مرحلة لتحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي أو من عدوان هذا الكيان الغاصب عليه، بما في ذلك احتلال عاصمته، قبل أن يكون هناك تنظيمٌ للمقاومة؟
إنّ المنطق الحضاريّ يقول: إنّ من لديه أوراق قوّة لا يُلقيها من يده، ولاسيّما في ظلّ التحدّيات الكُبرى والمنعطفات الخطيرة التي يمرّ بها عالمنا العربيّ والإسلاميّ، وفي ظلّ انعدام أدنى مستويات القيم الإنسانيّة والحضاريّة في حركة السياسة العالميّة التي تسيطر الدول المستكبرة على كلّ مفاصل القرار الفاعل فيها.
الدول الأوروبية: انسحاق القيم أمام «إسرائيل»
وفي السياق نفسه، تؤكّد حركة كثير من الدول الأوروبّية، انسحاق قيمها الإنسانيّة والحضاريّة أمام «إسرائيل» التي زارها الرئيس الفرنسي مؤخّرا، وقد تنكّر فيها - أمام الكنيست - لمبادئ حرّية الشعوب التي أطلقتها الثورة الفرنسيّة، عندما أكّد حماية «إسرائيل»، ذلك الكيان الذي قام على أنقاض شعبٍ طُرد من أرضه بالحديد والنار، من دون أن نسمع منه، أو من أيّ مسئول أوروبي، أنّه سيحمي الشعب الفلسطيني الذي يواجه مجازر «إسرائيل» الوحشية وحصارها الخانق، واغتيالاتها اليومية للشباب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، وآخرُها من خلال مجموعة الاغتيالات التي أنشأها الجيش الصهيوني، إضافة إلى الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي لعائلة الجندي الإسرائيلي الأسير «شاليط»، تعبيرا عن مدى اهتمامه بقضيته، متجاهلا عذابات الآلاف من المعتقلين الفلسطينيين وما يعانونه من أنواع التعذيب الوحشي الذي يمارسه الجيش الصهيوني ضد المعتقلين بوسائل وحشية غير إنسانية، وهو ما أُثير الحديث عنه حتى في داخل هذا الكيان، من دون أن نسمع أيّ احتجاج أو استنكار دولي أو حتى عربي على ذلك، لأنهم لا يحترمون إنسانية الشعب الفلسطيني.
ومن اللافت، أن هذا الرئيس الفرنسي يتحدث عن أن الأزمة الإيرانية هي الأكبر في العالم، ما يدعو إلى السخرية، لأن المسألة في مشروع إيران هي أنه مشروع سلمي، ثم لو كان مشروعا نوويا عسكريا، فهل يملك أن يكون الأخطر في العالم أمام الترسانات الذرية التي تملكها الدول الكبرى كأميركا وبريطانيا وفرنسا، حتى «إسرائيل» التي تملك 200 قنبلة ذرية، والتي قامت بمناورات عسكريّة ضخمة، في مستوى حشد مئة طائرة من طراز أف 15 وأف 16، في بداية تجربة تبدو استعدادا لهجوم محتمل للجيش الصهيوني على المنشآت النووية الإيرانية، في محاولةٍ أميركية لشنّ حربٍ نفسيّة على إيران باليد الإسرائيلية، لأن أيّة ضربة لإيران لا يمكن أن تتجرّأ عليها «إسرائيل» إلا بضوء أخضر وقرار أميركي؟
إنّهم يحاولون إثارة الخوف لدى الشعوب، وخصوصا الشعوب العربية، في التأكيد أن هذا الحشد النووي العسكري، بما فيه الإسرائيلي، يمثل حشد سلام لا مشروع حرب، في استغلال للسذاجة السياسية، لإثارة الخوف من إيران وزرع الاطمئنان تجاه «إسرائيل».
الاتحاد الأوروبي: ديكتاتورية سياسية واقتصادية
وفي موازاة ذلك، نرى أن الاتحاد الأوروبي استجاب لرغبات الرئيس الأميركي بوش في فرض مجموعة من العقوبات الدبلوماسيّة والاقتصاديّة على إيران، حيث بتنا أمام دولٍ تحوّلت إلى أنظمة دكتاتورية تضغط على حريات دول العالم الإسلامي في محاولته الحصول على الخبرات العلمية؛ لأنهم يريدون بقاء هذا العالم في حاجة إلى صناعاتهم، ليفرضوا عليه شروطهم السياسية والأمنية والاقتصادية.
ومن المؤسف أن العالم الإسلامي الذي لم يستطع أن يتحوّل إلى كيانٍ صناعيّ يعمل على تحقيق الاكتفاء الذاتي من جهة، وتصدير ثرواته إلى العالم بشروطه الاقتصادية من جهة أخرى، قد تحوّل إلى مزق متناثرة خاضعة لسياسات الدول الكبرى حتى في التصرف بثرواته وتحديد أسعارها، كما نلاحظ في الضغط عليه لزيادة إنتاج النفط من دون أية حاجة اقتصادية عالمية، لأن ارتفاع الأسعار خاضع للمضاربات لا لقلة الإنتاج.
لبنان: سجن الشعب
أما في لبنان، فإن اللعبة الداخلية والخارجية لاتزال تتحكّم بأوضاعه الأمنية والحكومية التي ينتظر الجميع أن تتحقق ولادتها بالطريقة القيصرية، وقد اقتنع الكثيرون بأن الأزمة الداخلية في اتهامات التعطيل المتبادلة بين هذا الفريق وذاك، تعبّر عن حركة التدخلات الخارجية في الاستفادة من لبنان الساحة التي تحتضن صراعات الدول الإقليمية، بما فيها الدول العربية والأجنبية الكبرى، وخطوط «إسرائيل» في العبث المخابراتي بأمن البلد بطريقة خفيّة. وربما كان نجاح اتفاق الدوحة عقدة لدى بعض دول المنطقة، بما يؤدي إلى أن تتحرك من أجل إرباكه وإسقاطه بالحوادث الأمنية المتنقلة من مكان إلى آخر، أو بالإثارات المذهبية في الدائرة الإسلامية من خلال بعض الجهات الدينية والسياسية التي لا ترى في «إسرائيل» أو في أميركا مشكلة للبنان، بل تراها في أتباع هذا المذهب أو ذاك، خضوعا للفتنة التي توحي بها بعض الجهات الإقليمية أو الدولية.
ولعل ما يثير الخطر على لبنان، أن بعض الدول في المنطقة أصبحت تتحرك مذهبيا في أكثر من دولة في الشرق الأوسط لخدمة مصالحها، لتضم إلى مواقعها السياسية أكثر من موقع مذهبي للإثارة، في التمييز بين الناس حتى بين مواطنيها.
وإذا كان الحدث الديني البارز في القمة الروحية الإسلامية والمسيحية، الذي أصدر بيانا استهلاكيا لا يجد فيه اللبنانيون أيّ حل للأزمة، فإن الجميع يعرفون أن هؤلاء لا يملكون إدارة شئون البلد في قضاياه الحيوية المصيرية، ولا يمثلون إلا واجهة النظام الطائفي اللبناني، ولذلك فإن اجتماعهم قد يوحي ببعض التنفيس عن حال الاختناق، ولكنه لا يملك مفتاحا للحل.
لقد سقطت فاعليّة كلّ القمم في لبنان؛ لأننا فقدنا الذين يعيشون قمم الحق والعدل والروح والمحبة والرحمة، وأصبحنا نتجوّل في السهول المليئة بالأوحال التي تحمل العداوة والبغضاء والعصبيات المتخلّفة... ويبقى الشعب في السجن الكبير، يتلاعب به اللاعبون الكبار والصغار.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2128 - الخميس 03 يوليو 2008م الموافق 28 جمادى الآخرة 1429هـ