قبل سنوات خلت حل علينا في البحرين ضيف كريم من الكويت هو الداعية الإسلامي المعروف وخبير الإدارة والتخطيط الاستراتيجي طارق السويدان وذلك بهدف إجراء سلسلة من المحاضرات والدورات التدريبية.
وكان السويدان تطرق في إحدى محاضراته التي كانت عن عوامل الانحلال والنهوض الحضاري للأمة الإسلامية إلى بحث العديد من الأزمات البنيوية الراهنة في التفكير الاستراتيجي للدول العربية والإسلامية ومنها ما يتعلق بأزمة التخصص، وحتى أزمة تحديد الأولويات والتوجهات والخيارات بين زيادة الإنفاق العسكري أو توجيه الإنفاق بشكل رئيسي على مختلف أوجه التنمية المتعلقة بالتعليم والتدريب وغيرهما، فهل نحن دول ستواجه العدو (الكيان الصهيوني) أولا أم أننا دول ستتفرغ لبناء ذاتها واستثمار طاقاتها الحيوية وتنمية مقدراتها الداخلية؟!
لا أدري كيف سيتم حينها التعامل مع مطالب ودعوات وتساؤلات السويدان وغيره الكثير من مثقفي ومباحثي ومفكري المنطقة والعالم اجمع؟ فهل سيعتبروه بدعواه تلك غرا جاهلا أو عدوا لدودا وخائنا للجيوش العربية ومتآمرا مع «أعداء الخارج» أو «أعداء - أصدقاء الخارج» أو «أعداء أعدائنا» الحقيقيين الذين ليسوا بالضرورة «أعدائنا»؟
مثل هذا التساؤل الغريب والمستهجن قد يأتي بالمقارنة مع ما قاله أخونا الشيخ عادل المعاودة في منبر الجمعة «لا أدري ما هو المغزى من هذه الدعوات، هل هي جهل بالتاريخ، أم بالواقع، أم هي إملاءات، أم مجرد مادة للظهور بمظهر الحرص على المال العام بغير إدراك لخطورة هذه الدعوات؟» و «فهذا ابن العلقمي وزير المستعصم بالله أشار عليه بتقليص الجيش وتسريح 90 في المئة من الجند من أجل تقليل الأموال التي تنفق عليه وإرجاعها للدولة، فكانت النتيجة أن ذهبت الدولة بأسرها، إذ انتهز الفرصة وخان الأمة وأبلغ هولاكو بأن بغداد أصبحت مستباحة أمامه، فما كان منه إلا أن دخل بجيوشه وأعمل القتل في الصغير والكبير، كما فعل هولاكو هذا العصر بريمر عندما حل الجيش العراقي ليترك العراق في ضياع وقتل ودماء لم يشهده إلا في زمن هولاكو المغول»، وما أعقبه أخونا جاسم السعيدي من بعده هتافا بطوليا معتادا كما نشرت ذلك الصحافة المحلية!
فهل الانشغال بالتنمية والإصلاح الداخلي واتباع خيار استراتيجي لصالح خيار استراتيجي آخر إنما هو خيانة عظمى؟ وهل تقليل الإنفاق العسكري غير المجدي في كثير من الأحيان على سبيل المثال يعد خيانة عظمى واستهدافا للجيش الذي له كل احترام وتقدير وطني، أم أن الأمر في النهاية يعود إلى حسابات وخيارات وتوازنات استراتيجية وطنية معاصرة نحددها بناء على قراءة صحيحة ومتجردة للواقع المعاصر وتحديد الأولويات والاحتياجات الرئيسية وبالعودة إلى نتائج وعقابيل أحدثتها قرارات وخيارات استراتيجية مصيرية سابقة، عسى ألا نقتصر فقط على استيراد خردة البضاعة الأميركية وما يسوقه أباطرة «كارتلات» النفط والسلاح في الولايات المتحدة الأميركية من أجندة ومغامرات استراتيجية عادت وبالا على أمننا العربي القومي ومنها ما يرتبط بجهود إسقاط النظام العراقي عبر «هولاكو العصر»، واستهلكتنا من قبل في معارك عبثية مع الجيران والأصدقاء والأعداء على حد سواء وهو ما لا يشير إليه للأسف مثل هذا القول السطحي والتصور المتناقض في طياته، والذي كان من الأولى أن ينادي باستعادة وتحرير منظومة تصوراتنا الاستراتيجية وأمننا القومي المختطف غربا؟!
وربما أدهى ما في الأمر هو حينما يتم زج مثل هذا القول الملتبس والموظف سياسيا والذي يعتبر في النهاية رأيا وتصورا وانطباعا شخصيا له احترامه من حيث المبدأ، أو قل مثل هذا الإسقاط الماضوي الذي أشبعنا أمثاله من قبل تسقيطا وسقوطا في الدرك الأسفل من عتبات الثقافات والحضارة المعاصرة، وذلك في سياق توظيف سياسي معتاد عبر منابر يوم الجمعة وهو ما يعني لدى العامة إكسابه صفة «القدسية» والتبجيل الروحاني لا تغني عن مسئولية ومساءلة كبرى، فهل رموز ورجالات ومسئولو التعليم والفكر والإبداع حينما يطالبون بزيادة الإنفاق على مؤسساتهم وزيادة مخصصاتهم بدلا من توجيه الإنفاقات إلى خيارات لم تعد في ضوء مرحلة من المراحل مجدية وملحة وشبعنا من دروسها إنما هم بذلك يعلنون جهرا جهلهم وسفاهتهم وخيانتهم العظمى للوطن؟!
ليس الجيش والأمن والاستقرار من شأن ومن صالح فئة معينة، وليست مجالات التنمية الأخرى كالتعليم والتدريب والرعاية الصحية لصالح فئة أخرى فقط، وكذلك بالمثل فإن خيارات الإنفاق العام والتوجه الاستراتيجي المعاصر ينبغي أن تتأسس وأن يحددها وأن توجه بناء على احتياجات ومتطلبات المواطنين أولا وآخرا، وما يواجهونه من تحديات ومآلات قابلة للنظر والقراءة، لا أن يضعها ويحددها لنا الراحلون والموتى مثل الوزير ابن العلقمي أو يزيد بن معاوية أو الحجاج بن يوسف الثقفي أو عبدالله بن سبأ أو شجرة الدر أو الشاه عباس الصفوي وغيرهم، فكفانا يا إخوة ويا أحبة بؤسا وإسقاطا وتسقيطا وسقوطا قد أتى على حساب طاقات ومقدرات الوطن وعلى إيمان المواطنين بنهضة وقيام وإشراقة وطنهم مرة أخرى!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2127 - الأربعاء 02 يوليو 2008م الموافق 27 جمادى الآخرة 1429هـ