نشر موقع «سي إن إن» تقريرا حكوميا صادرا عن دائرة التخطيط والاقتصاد بالعاصمة الإمارتية (أبوظبي) يحذر من أن قيمة الاستهلاك العائلي في الإمارات العربية، وصلت إلى نحو 87,1 مليار دولار أميركي، أي ما يعادل نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي للإمارة. ويعترف التقرير بأن «الأداء الاقتصادي القوي الذي حققته دولة الإمارات خلال السنوات الماضية صاحبته إفرازات سلبية من ضمنها الزيادة الكبيرة في حجم الإنفاق الاستهلاكي الخاص العائلي» باختصار بخرت المصروفات الإستهلاكية باليد اليمنى ما جلبته الصادرات النفطية باليد اليسرى.
الجديد في التقرير هو انتقاده السافر لسيادة الثقافة الاستهلاكية في المجتمع الإماراتي، معتبرا إياها بمثابة تشوهات أفرزتها «الثقافة الاستهلاكية لبعض شرائح المجتمع، إذ تشير إحصاءات شبه رسمية إلى أن إنفاق الفرد في دولة الإمارات على شراء المواد الاستهلاكية يزيد على سبعة أضعاف متوسط الإنفاق في بقية الدول العربية».
السلبيات التي أشار إليها التقرير ليست بالأمر الجديد، فقبل أسبوعين تقريبا حذرت الدائرة الحكومية ذاتها من آفة أخرى هي «التضخم»، والارتفاع الشديد في معدلات التضحم التي عصفت بإمارة أبوظبي وبلغت، حسب التقرير 11,5 في المئة في الربع الأول من العام الجاري (2008)، مرجعا أسباب ارتفاع نسب التضخم «إلى زيادات متتالية في إيجارات المساكن ومرافق الإنتاج وأسعار السلع والخدمات»، مشيرة إلى العلاقة المباشرة بين تلك «الإفرازات السلبية» والزيادات العشوائية، وغير المبررة أحيانا، «في أسعار السلع والخدمات في السوق المحلية، محذرة من الآثار الاجتماعية الناجمة عن ذلك ومن أهمها قال التقرير: «انخفاض قيمة المدخرات وسوء توزيع الدخل وانخفاض الأجور الحقيقية إذ تتحمل الفئات الفقيرة والمتوسطة في المجتمع العبء الأكبر من هذه الانعكاسات».
وكما يبدو فإن أبوظبي، أو بالأحرى الإمارات العربية المتحدة ليست حالا استثنائية في منطقة الخليج العربي، فقبل شهرين حذر صندوق النقد الدولي، «دول الخليج من مغبة تزايد مستويات التضخم في أنظمتها الاقتصادية، معتبرا أن ذلك قد يشكل خطرا مباشرا على استمرار النمو». وأشار الصندوق إلى أن دول المنطقة ستعاني من أزمة اقتصادية حقيقية خانقة قد تعصف باقتصاداتها «في حال وقوع الاقتصاد العالمي ضحية الركود وانعكاس ذلك تراجعا في وارداتها مع انخفاض الطلب على النفط». ويرى بعض الخبراء «أن الإجراءات التي قد تتخذها حكومات المنطقة حيال تحذيرات صندوق النقد لن تؤدي إلى نتائج حقيقية، وذلك بسبب الحاجة إلى وجود آليات مالية تواكب هذه الإجراءات، وهو أمر تفتقده حكومات المنطقة».
مؤسسة «الكونفرنس بورد،» وهي منظمة عالمية للأبحاث والأعمال، أعدت هي الأخرى دراسة مستقلة بالتعاون مع مؤسسة الخليج للاستثمار، نوهت فيها إلى «تدني مستويات الإنتاجية في اقتصادات منطقة الخليج مقارنة بمناطق أخرى في العالم». الأخطر من ذلك، وفقا لما ورد في تلك الدراسة، هو أن «النمو الاقتصادي في الخليج، والذي قارب معدل 5,1 في المئة سنويا منذ العام 2000، «يعود إلى الزيادة في القوة العاملة، وخصوصا المستوردة، ولا يعكس زيادة في الإنتاجية».
خلاصة القول، أن رفاه منطقة الخليج هو رفاه ظاهري وآني من جراء تضافر العوامل السابقة والتي يمكن لنا تلخيصها في النقاط الآتية: سلوك استهلاكي متنام وغير مبرر يهدد الشرائح الوسطى في المجتمع بالتآكل، الأمر الذي يهدد الأمن الإجتماعي والإستتباب السياسي. معدلات تضخم عالية وقابلة للنمو، هي الأخرى تلتهم أي نمو اقتصادي على المستوى الوطني العام، وأي رفاه إجتماعي على المستوى الأسري أو الفردي الخاص. نزيف مالي متزايد مصدره تردي الإنتاجية وتنامي الحاجة إلى زيادتها بشكل مطلق لضمان الحد الأدنى من متطلبات المحافظة على الموارد التي تحققها الصناعة النفطية. اعتماد كلي على موارد مصدرها ثروات ناضبة مثل الغاز والنفط، الأمر الذي يحول دون التنوع في مصادر الدخل، على المستويين الوطني العام والفردي الخاص.
كل هذه الظواهر الإقتصادية والإجتماعية السلبية بحاجة إلى وقفة مسئولة وجادة أمام مستقبل المنطقة وأجيالها. لايكفي الأمر اقتطاع نسبا معينة، مهما كانت نسبة تلك الإقتطاعات، من الدخل الوطني التي تتحول إلى إيداعات نقدية في المؤسسات المصرفية أو حتى الإستثمارية. فلم تعد الأموال السائلة تعني الكثير في الإقتصادات المعاصرة، وستتقلص أهميتها وأدوارها رويدا رويدا مع التطور الذي يشهده الإقتصاد العالمي، إذ تتراجع الأهمية التي كانت تتمتع بها الموارد المالية السائلة لصالح الموارد البشرية، والمهارات التي بحوزتها.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2126 - الثلثاء 01 يوليو 2008م الموافق 26 جمادى الآخرة 1429هـ