احترنا والله، واحتار الخلق فينا...
ما بين قمة الاتحاد الإفريقي التي انتهت بالأمس في شرم الشيخ، على الجناح الآسيوي من مصر الإفريقية، وبين قمة الاتحاد من أجل المتوسط المقرر عقدها يوم الأحد 13 يوليو/ تموز الجاري في عاصمة النور الفرنسية (باريس) فوق الأرض الأوروبية، تشتت تفكيرنا واختلفت رؤانا وتباينت مواقفنا.
إلى مَن بالضبط ننتمي وعلى من نعتمد، إلى إفريقيا باتحادها، أو إلى أوروبا باتحادها من حول البحر الأبيض المتوسط، وفق ما يراه الرئيس الفرنسي ساركوزي، من دون أن يسأل أحد نفسه وأين قبلة الانتماء الأصلي، الاتحاد العربي، أو الوحدة العربية، أو الجامعة العربية.
الحيرة البادية على وجوه مسئولينا، بل التصريحات المعلنة والأفكار المروج لها على ألسنتهم، تدل على أن فكرة القومية والوحدة والانتماء العربي وأفضليتها على ما سواها، قد تراجعت، ليس فقط أمام نتائج التجارب الوحدوية الفاشلة، ولكن أمام الإغراءات الأجنبية الجاذبة، بحجة الالتحاق بقطار التقدم الأوروبي السريع، أو بحجة الالتحاف بالدفء الإفريقي الواعد.
في الحالتين ضعنا وتشتتنا وتجاهلنا البيت الأصلي، وأصبحنا نبحث السكن والتساكن في غرف صغيرة في بيوت الآخرين، إما عابرين للبحر الهائج شمالا، أو للصحراء البيداء جنوبا.
ولقد أثبتت قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة، كما السابقة، أن الحلم الروماني للعقيد القذافي قائد الثورة الليبية، بتوحيد أكثر من خمسين دولة إفريقية، في إطار «الولايات المتحدة الإفريقية» برئيس واحد وحكومة واحدة وبرلمان واحد، على نسق الولايات المتحدة الأميركية، لايزال حلما بعيد المنال، بسبب عدم واقعيته الراهنة، واختلاف السياسات والمصالح، وكذلك بسبب الاختراقات الأوروبية والأميركية الحادة، التي تفضل وضع التشرذم الإفريقي الحالي، على أية وحدة مأمولة. وبالمقابل أخذ الأوروبيون زمام المبادرة لإعادة استقطاب دول الجناح الجنوبي للبحر المتوسط الممتدة من المغرب إلى تركيا، لدمجها في إطار أوروبي مظهره التعاون والتضامن، ومخبره الاحتواء والاستيعاب ودفع الخطر بعيدا.
في العام الماضي وبعد فوزه بالرئاسة الفرنسية، طرح الرئيس ساركوزي مشروعه بإقامة الاتحاد من أجل المتوسط. ليضم الدول الأوروبية المطلة على البحر المتوسط، والدول العربية و «إسرائيل» وتركيا المطلة على البحر من الجانب الجنوبي، إطارا جديدا يبعث الحياة في الأفكار القديمة بشأن الحوار العربي الأوروبي، وعن ما سمي عملية برشلونة العام 1995، التي تعثرت في تحقيق كامل أهدافها في التعاون السياسي، والتعاون الأمني والتعاون الاقتصادي.
مشروع ساركوزي لاقى في البداية معارضة أوروبية حادة قادتها ألمانيا بكل ثقلها وسط الاتحاد الأوروبي، لأنه يستبعد الدول غير المطلة على المتوسط، فكانت البرجماتية الأوروبية حاضرة، بضم كل دول الاتحاد وهي 27 دولة أوروبية إلى الاتحاد من أجل المتوسط... كلها بحر متوسط!
على الناحية الأخرى من البحر كانت المواقف، وخصوصا العربية، متباينة، ما بين الترحيب والقبول، وبين الرفض الصريح، وفي الوسط كالعادة كان هناك التردد وعدم الإفصاح الممل والتقليدي.
في مقابل الرفض الليبي الذي يفضل الاتحاد الإفريقي، جاء القبول المصري على أساس أن الرئيس مبارك سيشارك الرئيس ساركوزي في رئاسة الدورة الأولى لقمة التأسيس للاتحاد من أجل المتوسط. وجاء الترحيب التونسي على أساس أن مقر الاتحاد في الجنوب سيكون في تونس، وبينما ترددت الجزائر رحبت «إسرائيل» لأسباب كثيرة أهمها أنها ستكون في ساحة أوسع للاستقواء، وكذلك ترددت سورية في البداية لكن الواضح أنها ستشارك.
وإن عكس كل هذا شيئا محددا، فهو يعكس تشتت الرؤية العربية بل غيابها، وبالتالي غياب المواقف العربية المنسقة والموحدة، سواء تجاه الاتحاد الإفريقي أو الاتحاد من أجل المتوسط، وهكذا يثبت العمل العربي المشترك مع الجامعة العربية الفشل الذي يدمي القلب!
ونخطئ كثيرا إن خدعتنا البهرجة الأوروبية ذات المذاق الفرنسي الحلو، إن صدقنا أن الهدف الفرنسي، الأوروبي من إقامة هذا الاتحاد المتوسط الجديد، هو هدف نبيل مجرد عن الهوى يتسامى فوق المصالح الانتهازية... لأن الحقيقة غير كذلك وتأمل فيما يلي:
الأهداف المعلنة للاتحاد المتوسطي تبدو خيرية إنسانية طيبة، وهي مساعدة دول الجناح الجنوبي للمتوسط ومعظمها عربية بالإضافة لـ «إسرائيل» وتركيا، في مجالات التعاون السياسي والاقتصادي والتجاري والأمني والثقافي، حتى تتمكن الدول الفقيرة منها، بفضل المعونات الأوروبية الموعودة، من تحقيق النسبة اللازمة ومكافحة والإرهاب والتطرف والإحباط، الذي يعكس مرارته على الجار الأوروبي، فيهدد رفاهيته وتقدمه واستقراره... لكن الأهداف الحقيقية لفرنسا ومن ورائها أوروبا ومن فوقها أميركا، تكمن في المدخل الأمني العسكري، لاستعادة ذكرى الأيام الخوالي للاستعمار القديم مع المستعمرات المتحررة، والمدخل الأمني يقوم للغرابة على المبدأ الفقهي الإسلامي «درء المخاطر مقدم على جلب المصالح»، فبعد ما انتهت أوروبا الغربية من ابتلاع أوروبا الشرقية بعد تفكيك الاتحاد السوفياتي طوال عقد التسعينيات من القرن الماضي. منهية أو مؤمنة الجبهة الشرقية التي كانت مصدر التهديد والخطر الرئيسي عليها، بدأت تتلفت إلى الجبهة الجنوبية لأوروبا، وهي الساحل الشمالي لإفريقيا امتدادا حتى تركيا الآسيوية... ساحل الخطر والمخاطر!... وقد انتقلت العقيدة الرئيسية لحلف الأطلنطي «الناتو» من مواجهة خطر الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل السوفيتية شرقا، إلى مواجهة خطر أسلحة الدمار الشامل جنوبا، الممثلة في الفقر والاستبداد والإحباط والإرهاب، القافز دائما عبر البحر المتوسط نحو الجنة الموعودة في أوروبا السعيدة، يهدد رفاهيتها وسعادتها...
وانطلاقا من هذا التصور الاستراتيجي، حددت فرنسا والاتحاد الأوروبي، بدوله السبع والعشرين، الأهداف الحقيقة للاتحاد من أجل المتوسط، نلخصها في الأهداف الخمسة الآتية:
1 - إقامة سياج أمني متقدم لمقاومة تدفق الهجرة غير الشرعية من الساحل الجنوبي للمتوسط إلى قلب أوروبا، بعد أن زادت وتيرة هذه الظاهرة، فأقلقت الرفاهية الأوروبية، وصولا لمطالبة إيطاليا باستخدام الطائرات العسكرية في قصف قوارب وقوافل المهاجرين العرب والإفريقيين، «الغزاة الفقراء».
2 - إقامة درع عسكري محكم فوق الساحل الجنوبي، لمكافحة الإرهاب وجماعات التطرف الديني، الذي تؤمن أوروبا، وفرنسا خصوصا، أن هذا الخطر هو مصدر التهديد الحقيقي الحالي والمستقبلي لأوروبا، خصوصا بعد أن أصبح المسلمون يشكلون ثاني أكبر أصحاب الديانات فيها، وهو تهديد لا تتحمله دول مسيحية ينمو فيها تطرف مضاد، خصوصا في ظل تنامي الاسلاموفوبيا مع العنصرية الأوروبية التقليدية.
3 - إعادة هيمنة الموجة الجديدة من الاستعمار الأوروبي الحديث على الساحل الإفريقي العربي. باعتباره سوقا تجارية كبيرة ومصدرا رئيسيا للطاقة، وما أدراكم بهاجس الطاقة وأزمتها هناك.
4- إحياء الدور الفرنسي «الاستعماري الفرانكفوني» التقليدي، الممتد من دول المغرب العربي غربا حتى سورية ولبنان شرقا، وهو دور قديم جديد يحلم ساركوزي بأن يكون باعثه ومحركه، من خلال إطار أوروبي عربي إفريقي إسلامي مسيحي مغاربي شرق أوسطي... يا لها من ساحة ينافس فيها الانفراد الأميركي، لكنه لا يصارعه لأنهما متكاملان متضامنان، كما أكد ساركوزي نفسه، بعد تأكيده عودة فرنسا للحظيرة الأميركية!
5 - تدعيم دور «إسرائيل» في إطار منظومة إقليمية دولية أوسع، تستطيع من خلالها تجاوز المقاطعة العربية، وتفتح باب التطبيع والتعامل المباشر في قضايا شائكة مثل الأمن والإرهاب والفقر، رغما عن أية حساسية حقيقية أو زائفة!
الآن... إن كانت هذه هي الأهداف الحقيقة للاتحاد من أجل المتوسط، الذي تذهب إليه متحمسين أو حتى مترددين، فهل غابت مخاطرها عن فطنة حكامنا ويقظة مسئولينا، أم أنهم يعرفون ويدركون ويدخلون طائعين.
الأرجح أنهم يعرفون، بعد أن أدركوا أن العمل العربي المشترك، وهو المقابل الموضوعي، قد تاه وضاع بفضل حسن فطنتهم وحدة بصرهم وقوة بصيرتهم... قواهم الله.
خير الكلام:
عن رابعة العدوية: من ذاق عرف... ومن وصف اتصف
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 2126 - الثلثاء 01 يوليو 2008م الموافق 26 جمادى الآخرة 1429هـ