ثمة خلط متعمد ومقصود يسعى ويروج إليه كثيرون بين المقاومة وبين العنف والإرهاب الأعمى, الهدف منه تشويه كل فكرة أو إرادة ترفض الخنوع والاستسلام لإملاءات المحتلين وبطانتهم في بلاد العرب والمسلمين.
وهكذا يصبح من يفجر مطعما أو مقهى شعبيا أو فندقا في بعض المدن العربية هنا أو هناك أو في إحدى العواصم الأوروبية, مثله مثل من يشكل خلية مقاومة في الجنوب اللبناني أو في غزة أو الضفة الغربية أو في إطار صفوف المقاومة العراقية أو الأفغانية للاحتلال الأجنبي الذي ابتليت به أمتنا في هذه الأقطار, والذي توصينا وتعلمنا كل الشرائع السماوية والأعراف والمعاهدات الدولية المعترف بها من الجميع, بضرورة مقاومته هو وبطانته حتى يرحل ويندحر ويسلم ويذعن لإرادة أصحاب الدار.
إنها خطة قديمة جديدة ومعروفة لدى كل المتتبعين والقارئين لتجارب الشعوب المكافحة والمناضلة, يعمل المحتلون على وضعها في موازاة خط المقاومة والرفض مستأجرين ضعاف النفوس أو مخترقين بعض القوى المترهلة أصلا والفاقدة للصلابة والتشكل الفولاذي اللازم, ومن خلال استئجار بندقية فاقدة للهوية ليحملونها لظرف معين وفي إطار ملابسات معينة وحيثيات خاصة, فيضعونهم ويضعونها في وجه المقاومين وسلاح المقاومة الشريف مرة كبديل وأخرى كمنافس وثالثة كخصم لدود, وفي كل الأحوال من أجل ساعة الصفر التي يظنون إنها آتية لا محالة ليطالبوا فيها المقاومة الحقة والمشروعة بنزع سلاحها بحجة أن الظرف الذي دفعكم لحمل البندقية قد انتهى والزمان صار زمان التفاوض والحوار!
لكن العارفين بخفايا المحتل والغاصب يعرفون تماما أن الأوقات والموازين التي دفعت المقاومين الشرفاء لحمل السلاح وتنظيم أفواج المقاومة الشعبية للدفاع عن الأمة في إطار تحصينها على كل الأصعدة ليس زمنا ظرفيا ينتهي بانتهاء مهمة محددة كأن تكون مثلا دفع المحتل من أشبار محتلة محددة وكفى الله المؤمنين القتال.
أبدا ليس كذلك، بل هي مهمة مشروع المقاومة الطويل الأمد والطويل النفس والبعيد الأفق والمنظور. إنها مهمة قد تستمر لعقود يبقى فيها المقاومون قابضين على السلاح كالقابض على الجمر حتى تتغير الموازين والأوقات والظروف والحيثيات التي جعلت العدو يجرؤ على العدوان والاحتلال والاغتصاب. ولنأخذ لبنان مثلا على ذلك.
نعم «المقاومة ليست أداء ظرفيا تنتهي بانتهاء مهمة محددة بل هي ثقافة مقاومة», كما يقول نائب الأمين العام لحزب الله اللبناني الشيخ نعيم قاسم, و «المقاومة مستمرة في تعزيز قدراتها الدفاعية على طول الخط»، وإنها «لن تسمح لأحد، أي أحد في لبنان أن يتبوأ موقعا أمنيا أو عسكريا مناوئا للمقاومة أو يريد طعنها في الظهر» كما ورد على لسان السيدنواف الموسوي مسئول العلاقات الدولية في حزب الله اللبناني, وهو الكلام الذي أثار البعض هنا أو هناك وكشف نوايا آخرين يعدون العدة منذ مدة للقضاء على المقاومة اللبنانية في إطار تسليم مفاتيح المنطقة للسيد الأميركي, وهو الحد الأدنى من الخطاب الذي تتوقعه الملايين من أنصار ثقافة المقاومة المنتشرين في ثنايا وتضاريس وشرايين وأوردة جسم الأمة في جدة والرياض ومكة والمدينة، كما في الصعيد وأسوان والإسكندرية وقاهرة المعز، كما في الدار البيضاء والرباط، كما في صنعاء وعدن، كما في الجزائر وتونس، كما في السودان، فضلا عن بيروت والجنوب اللبناني وطرابلس والبقاع وغزة ودمشق وبغداد وطهران وصولا إلى أنقرة واسطنبول وماليزيا وإندونيسيا والعالم الإسلامي كله حتى السور الصيني العظيم.
لماذا نقول هذا الكلام الآن؟ ذلك لأن ثمة من أقام الدنيا ولم يقعدها بعد على إثر هذه التصريحات المستجدة من جانب رموز المقاومة اللبنانية وحاول من جديد أن يربطها بالتحرش والنزاع الفتنوي الطائفي الذي انطلق مجددا من مدينة الفيحاء اللبنانية الشمالية وهو السيناريو المعد سلفا للتوظيف في خدمة مشروع الفتن الطائفية والمذهبية المتنقل من العراق إلى لبنان وإلى سائر أقطار العالمين العربي والإسلامي.
إن هؤلاء المستنفرين أو المستفزين على خلفية التصريحات الأنفة الذكر, كانوا أول من اعتبر اتفاق المصالحة اللبنانية في الدوحة ليس سوى «تسوية» اضطروا للقبول بها تحت ضغط الموازين المتغيرة, وإنهم لن يلقوا السلاح حتى تستعيد الأمور نصابها بعد أن صوروا «صلح الدوحة» بمثابة رصاصة الرحمة الموجهة ضد جميع مشروعاتهم الاستئصالية.
في هذه الأثناء ظن بعض المقطوعين من شجرة الأمة للحظة, أن المقاومين الشرفاء والأصيلين سيتأثرون بالمفاوضات السورية الإسرائيلية مثلا أو بأجواء التهدئة بين حماس و «إسرائيل», أو بأجواء المصالحة الوطنية الحقيقية التي أرادها ولا يزال يصر عليها كل الشرفاء اللبنانيين وهم الأكثرية الساحقة في الشعب اللبناني, فيتقدمون طواعية بتسليم سلاحهم للسيد الأميركي ويضعون خياراتهم بعهدة المتعاملين معه. لهؤلاء جميعا نقول لقد خاب فألكم, المقاومون الشرفاء هؤلاء لا يحملون بندقية للإيجار، والمقاومون الأطهار هؤلاء لم يستندوا يوما إلى معادلة دولية أو إقليمية ظرفية, وإلا ما كانوا بدأوا المقاومة أصلا يوم كان عملهم يصنف في خيارات الجنون واللامعقول.
ثم إن هؤلاء الموسومين بأطهر الناس وأشرفهم, هم مجتمع مقاومة تمتد جذوره إلى أيام الإمام المغيب موسى الصدر وأبطال المقاومة الشعبية ضد المستعمر الفرنسي من أمثال ادهم خنجر وصادق حمزة وعبدالحسين شرف الدين, إذا لم تكن جذورهم ممتدة إلى أبعد من ذلك لتلتحم بالعهد الراشدي المسدد من البدريين والحسينيين والطالبيين والهاشميين.
لمثل هؤلاء يقال إنهم عملاء لمعادلة إقليمية أو دولية ظرفية طارئة تظن آنسة بائسة يائسة من آنسات «الشرق الأوسط الجديد» إن بإمكانها أن تسحب البساط من تحت أرجلهم المنغرسة في الأرض المقدسة.
ألم تسمعوا أو تقرأوا حكايات التأريخ القريب والبعيد عمن يسميهم الإعلام الحربي للمقاومة بـ «ليوث حيدر»؟!
نعم إن هؤلاء عملاء! لكنهم عملاء غير متقلبين وثابتين في عمالتهم لوطنهم اللبناني الذي يعشقون ترابه الذي فيه ينغرسون، وعملاء لدينهم وقيمهم السامية التي بها يعتقدون ويتمسكون، وعندئذٍ فإن ما قالوه هو الحد الأدنى الذي به يطالبون, وإلا فإن جموع الأمة التي سبقت الإشارة إليها ستلجأ إلى خيارات قد تصبح معها السيطرة حتى على مشاعر أطفال بعض أمراء المنطقة الذين يطالبون آبائهم بإرسالهم للقتال في صفوف «جيش الرايات الصفراء» في إشارة الى جيش حزب الله - كما ينقل أحد الأمراء - أمرا مستحيلا، فكيف بالسيطرة على جموع الكتل الجماهيرية الكبرى من الأنصار المنتشرين في كل قرية وشارع وزقاق.
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 2125 - الإثنين 30 يونيو 2008م الموافق 25 جمادى الآخرة 1429هـ