خمسة أيام مضت، ولا يزال أطفال جيران منزلي يتناقشون حول مفهوم الأمانة التي خانها - بحسب تعبيرهم - أحدهم حين أقدم على إتلاف دراجة صديقه الذي سلمه إياها بصفة «الأمانة». وفيما لا يزال الأصدقاء مختلفين على ما إذا كانت مفردة «الأمانة» تجيز للصديق الذي تم تأمين الدراجة في حوزته القيام باستعمالها حد الإتلاف، يبدو الصديق الذي أتلف الدراجة مصرّا على أنه يجب ألا يتكفل بإصلاح الدراجة التي أتلفها أو حتى أن يعيد ثمنها لصديقه، ذلك أنه أعطيَ الدراجة «أمانة»، والأمانة - حسبما يعتقد - تتيح له استخدام الدراجة دون حدود، وبما يشمل احتمال تلفها لسبب أو لآخر.
خمسة أيام مضت، ولا يزال النقاش مستمرا، كنت أحاول استماع ما ستصل إليه الأمور لما يمثله هذا النقاش من أهمية بالنسبة لمصير الدراجة، وهو ما يهمهم بالدرجة الأولى. بالنسبة لي، كنت أحاول أن أتأكد قدر استطاعتي أن جميع من قاموا بالسرقات في الوزارات والمؤسسات الحكومية لا يملكون حجة دامغة، أو تبريرا لما قاموا به كما كان ذلك الطفل الذي تسبب في إتلاف الدراجة يحاول الالتفاف هنا وهناك، أملا في إقناع بقية الأطفال ببراءته إلى ما يصل اعتباره مظلوما!
صبيحة كتابة هذا المقال فقط، لم أجد أطفال الحي في حلقتهم النقاشية المطولة، كان الطريق هادئا وخيّل لي أن درجة الحرارة المرتفعة تسببت في تأجيل النقاش اليومي، أو على الأقل في نقله لغرفة مكيفة بأحد بيوتات الحي. ولولا أن الطفل صاحب الدراجة المعطوبة «الضحية» كان يقف على حافة الشارع يلاعب كرته ما كان لي أن أحظى بخاتمة هذا الصراع، أوقفت السيارة بجانبه لأسأله عن مصير التعويض الذي كان يطالب به، وعلى رغم أن ابتسامته في رده كانت تخفي وراءها «بحّة» في الصوت، فإنه أكد لي أن بقية المجموعة لم تسانده في مطالبه. وحين سألته عن السبب، أجاب بأن صديقه الذي أعطب الدراجة هو الوحيد الذي يمتلك جهاز «بلاستيشن»، ما يعني أن قرار المجموعة بالوقوف ضده قد يتسبب في منعهم من مشاركته اللعب على الجهاز.
في المحصلة، أخبرت الطفل بضرورة ألا يحزن، فدراجته هي في صورة من صورها ليست سوى بلده الذي يعبث به من يعبث/ يعطبه من يعطبه/ يسرق خيراته من يسرق دون رادع، فالسُراق المحتالون هم في الغالب من يمسكون بخيوط اللعبة ويديرونها كصديقه الذي يملك ما لا يملكه هو، ولذلك فقط، عليه أن يقبل بما جرى عليه دون أدنى امتعاض، ألسنا في النهاية، أسرة واحدة في حي واحد!
إقرأ أيضا لـ "عادل مرزوق"العدد 2123 - السبت 28 يونيو 2008م الموافق 23 جمادى الآخرة 1429هـ