ردود الفعل التي صدرت عن قادة حركة «حماس» احتجاجا على إطلاق «سرايا القدس» و «كتائب شهداء الأقصى» الصواريخ المحلية الصنع على مستوطنات ومزارع جنوب فلسطين المحتلة تشبه كثيرا في مضمونها تلك التصريحات التي صدرت تباعا عن قادة السلطة الفلسطينية استنكارا لإطلاق «حماس» صواريخها البدائية والمحلية الصنع من قطاع غزة على المناطق المستهدفة نفسها. فقبل أكثر من سنتين حذرت السلطة الفلسطينية من خطورة استخدام الصواريخ باتجاهات عشوائية تستدعي ردة فعل إسرائيلية وتعطي ذريعة للعدو حتى يستكمل مشروعه التقويضي ويقوم تحت مسمى الدفاع عن أمن المستوطنات بتحطيم البنى التحتية ومحاصرة القطاع وتجويعه تنفيذا لمخططات التوسع والتوطين وتعطيل إمكانات التوصل نحو بناء دولة فلسطينية مستقلة.
«حماس» آنذاك رفضت تحذيرات السلطة الفلسطينية وردت عليها بحملة إعلامية اتهمتها بالخيانة والتواطؤ والتراجع عن مشروع التحرير معتبرة أن «الصواريخ» من المقدسات وهي الوسيلة الوحيدة القادرة على وقف العدوان وحماية الشعب والتصدي لمشروعات التوسع والاستيطان. وانتهت المساجلات الإعلامية إلى قيام نوع من «ازدواجية السلطة». وتطورت الازدواجية إلى «حرب أهلية» أدت إلى انقسام السلطة وتفرقها إلى حكومتين وإعطاء فرصة زمنية لحكومة إيهود أولمرت لتستعيد توازنها وترد على الطرفين من دون تمييز بين القطاع والضفة.
انقلاب «حماس» على السلطة بذريعة الصواريخ وصون الحق المقدس في إطلاقها من دون قيود سياسية ولا حسابات إنسانية أدى إلى تمزيق الكيان الفلسطيني وتوزيعه على ركيزتين تتنافسان على صلاحية القرار ومن هو الطرف المسئول عن السلم والحرب. حتى الآن لا تزال تداعيات «ازدواجية السلطة» وثم «انقلاب حماس» وأخيرا تحطيم البنى التحتية للقطاع والضفة وإضعاف قوة السلطة في المفاوضات ترتد تباعا على حقوق الشعب الفلسطيني ومصالحه. فالسلطة من جانبها تراجع زخمها ولم تعد قادرة على تطوير هجومها السياسي في عملية التفاوض مع حكومة أولمرت. و «حماس» من جانبها تراجعت عن فلسفة الصواريخ وبدأت تطالب الفصائل الفلسطينية الأخرى بضرورة دعم خطة التهدئة واحترامها حرصا على أهالي عزة.
سنتان من التجاذبات الأهلية والاستقطابات السياسية بين «فتح» و «حماس» انتهتا دائريا إلى النقطة التي ابتدأ منها الخلاف. وخلال هذه الدورة من المشادات والانقسامات والانقلابات توصلت «حماس» إلى تبني تلك اللغة التي حاولت «فتح» تسويقها في مشروع يوحّد الطاقات في جهود مشتركة تنظم مصالح الشعب تحت سقف الوحدة.
الآن بعد كل الكوارث التي حصلت ماذا تقول «حماس» ردا على صواريخ «الجهاد» و «فتح» على المستوطات الإسرائيلية؟ الناطق باسم «حماس» سامي أبو زهري قال الخميس الماضي ردا على إطلاق صاروخين من «شهداء الأقصى» بأن تجاوزات «المجموعة المسماة كتائب الأقصى للإجماع الوطني تمثل محاولة لا تخدم إلا الاحتلال لتبرير حصاره المستمر وتهدف إلى تحقيق أهداف حزبية على حساب المصلحة الوطنية العليا». أما الناطق باسم «حكومة إسماعيل هنية» طاهر النونو فاتهم في بيان أصدره أيضا الخميس الماضي حركة فتح بنقض التهدئة وحذر من أن حكومته «لن تسمح لمن يطلق عبارات التخوين وصكوك الوطنية وفقا لمزاجه الحزبي والتحكم بمصلحة شعبنا وخرق الإجماع الوطني، وستتخذ التدابير اللازمة لحماية الشعب من أصحاب الرؤى الضيقة المرتهنة بالاحتلال».
جاءت ردود فعل «حماس» للرد على بيان صدر عن «كتائب الأقصى» مشيرا إلى أن التهدئة التي تحاول فرضها حماس «خيانة وطنية» لأنها تريد منها بسط سيطرتها على قطاع غزة. ودعت «الأقصى» حماس إلى التوقف عن فرض الرؤية الواحدة و «العودة إلى أحضان الشرعية الفلسطينية ودعم مبادرة الرئيس». أما «الجهاد» فأكدت التزامها بالتهدئة بشرط أن تلتزم بها «إسرائيل».
صواريخ سياسية
هذه المواقف المتعارضة تعيد إنتاج تلك الخلافات التي بدأت قبل سنتين بشأن الصواريخ والهدنة والتفاوض. وهذا التعارض دفع رئيس الحكومة المقال إسماعيل هينة إلى توضيح موقف «حماس» داعيا إلى احترام التهدئة مشيرا إلى أنها تبغي التوصل إلى تحقيق مصلحتين: الأولى، وقف العدوان الإسرائيلي، والثانية رفع الحصار.
لماذا بعد سنتين من المعاناة تغيرت المواقف وانقلبت من ضفة إلى ضفة؟ فما كانت تقوله «فتح» رفضته «حماس» وما أصبحت تقوله «حماس» ترفضه «فتح»؟ تبادل المواقف والتراشق بها يؤكد أن المسألة ليست أيديولوجية وإنما تتعلق بالقرار الفلسطيني ومن يملك صلاحيات تقرير الحرب أو السلم. فحماس بعد انقلابها تورطت عمليا في إدارة القطاع الأمر الذي دفعها إلى إعادة النظر بوظائف إطلاق الصواريخ. وجاءت الإعادة في إطار تهدئة تحاول توظيف الهدنة سياسيا في سياق الضغط على السلطة الفلسطينية ومحاولة إضعافها من خلال مصادرة صلاحياتها في قراري الحرب والسلم. فالتهدئة التي توصلت إليها حماس مع حكومة أولمرت من خلال القناة الدبلوماسية المصرية أعطتها سلطة تنفيذية تساعدها على توسيع إشرافها السياسي على القطاع. وهذا الأمر تتخوف من تطوره الفصائل الفلسطينية الأخرى لأنه يعزز احتمال عزل القطاع عن الضفة وإعطاء فرصة لحكومة أولمرت بالتركيز عسكريا على جانب والتفاوض سياسيا مع جانب آخر.
التلاعب الإسرائيلي بوحدة السلطة واستخدام الازدواجية وثم الانقسام لإدارة دفة المواجهة من القطاع إلى الضفة مسألة غير مستبعدة لكون المشروع الصهيوني يستهدف الآن تعطيل إمكانات الشعب الفلسطيني وبعثرته في صراعات محلية تضعف قدرات التفاوض وتمنع الرئيس محمود عباس من التقدم باتجاه انتزاع اعتراف بدولة قابلة للحياة. وهذا الاحتمال ليس سرا باعتبار أن خطة الاستيطان تتركز الآن في القدس (بناء وحدات سكنية) والضفة (توسيع المستوطنات) وتشجيع المهاجرين على التوطن في شريط يمزق الأراضي المحتلة ويعرقل التواصل البشري في المدن والبلدات المطوقة بجدار الفصل العنصري.
اتفاق التهدئة الذي توصلت إليه حماس عبر بوابة مصر الجغرافية يعتبر خطوة إيجابية باتجاه وقف العدوان ورفع الحصار وفتح المجال للتفاوض بشأن عملية تبادل الأسرى، إلا أن الاتفاق لابد من منع توظيفه سياسيا باتجاه استثماره حزبيا لزعزعة الاستقرار الفلسطيني وتكريس الانقسام وتعطيل وحدة المصالح وعزل القطاع عن الضفة. فالحكومة الإسرائيلية تحاول استغلال الانشقاق للتفرغ نحو الضفة والضغط على السلطة لإضعاف موقعها التفاوضي. وهذا الأمر يستدعي خطة فلسطينية للرد تقوم على آليات تستخدم برنامج العودة نحو وحدة وطنية تتجاوز حدود الخريطة الحزبية وتتوافق على سياسة تمنع تل أبيب من التفرقة بذريعة أن التهدئة تقتصر على القطاع ولا تشمل الضفة.
عملية الفصل بين الضفة والقطاع التي تعمل تل أبيب على ترويجها تؤكد مسألة وحدة المصالح الفلسطينية وعدم جدوى الطروحات الأيديولوجية التي تغلب العقلية الكيدية على البرنامج العملي في المرحلة الراهنة.
في هذا المجال لابد أن تلعب الدبلوماسية المصرية دورها، بالتوافق مع الأردن، على تجفيف سياسة العزل المفتعلة بين القطاع والضفة. فإزالة العزلة المصطنعة بين التهدئة في جانب ومواصلة الاستيطان في جانب تمنع تقويض السلطة وتدفع المفاوضات إلى التطور نحو مشروع سياسي ينتزع الاعتراف بالدولة ويضمن الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني. وهذه المهمة المؤقتة تعتبر سياسة مشتركة وخصوصا بعد أن تراجع خطاب حماس ميدانيا وأصبح في موقع لا يختلف كثيرا عن برنامج فتح.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2123 - السبت 28 يونيو 2008م الموافق 23 جمادى الآخرة 1429هـ