تطرقت في مقال سابق نشر في «الوسط» بتاريخ 18 يونيو/ حزيران الجاري إلى «سلوكيات» المتبرعين الأميركيين، وكمية ونوعية التبرعات الأميركية الخيرية. في هذا المقال اخترت بريطانيا مثالا آخر بحكم انتمائها للدول الأوروبية، وتماثل الثقافة العامة فيها.
@ @ @
في المملكة المتحدة هناك أكثر من 200 ألف منظمة خيرية مسجلة حتى مارس/ آذار العام 2007، وقد تسلمت هذه المنظمات تبرعات عامة بقيمة 41 مليار جنيه إسترليني (31 مليار دينار بحريني) العام 2006. تمثل هذه التبرعات حوالي 1.1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة.
هذه المنظمات الخيرية تعمل تحت مظلة مفوضية أو هيئة خيريةCharity Commission، وهي ليست إدارة حكومية كما هو الحال في مملكة البحرين بل تتبع البرلمان البريطاني مباشرة عن طريق مجلس إدارة، ويحكمها قانون المنظمات الخيرية (Charity Act) للعام 2006. قدم المواطنون البريطانيون كأفراد في العام 2006 ما يقارب 9 مليارات جنيه إسترليني (7 مليارات دينار بحريني) وهذا يمثل ما معدله 15 جنيه إسترليني (12 دينارا بحرينيا) في الشهر لكل شخص بريطاني بالغ، إذ إن أكثر من نصف البريطانيين يتبرعون مرة واحدة في الشهر على الأقل.
كما تقول الإحصاءات إن 61 في المئة من النساء البريطانيات يقدمن تبرعات شهريا مقارنة بـ 53 في المئة فقط من الرجال على رغم أن الرجال عندما يتبرعون يكون حجم تبرعاتهم أكبر من النساء.
أما عن أهم المجالات التي تذهب لها هذه التبرعات فهي حسب الأولوية: للبحوث الطبية والأطفال/ الشباب والمستشفيات والحيوانات والإعاقة والمؤسسات الدينية.
في أول وأكبر دراسة قامت بها المؤسسة الخيرية البريطانية (Philanthropy UK) التي تم طباعتها في كتاب مشهور باسم Why Rich People Give العام 2004 تم عمل مقابلات شخصية مع 100 من أكبر الأثرياء البريطانيين تحدثوا فيها عن الثراء وعن سلوكهم في التبرع. كما تحدثوا عن دوافعهم للتبرع أو عدم التبرع وطرق جمع الأموال التي تناسبهم وتستهويهم وكيفية تحديد المبالغ التي يودون التبرع بها.
اتجاهات التبرع
تحدثت الدراسة عن عدد من الاتجاهات التي برزت في الآونة الأخيرة، فهناك زيادة كبيرة في عدد الأفراد الأثرياء وتغيير في مصادر الثراء. فعلى سبيل المثال قبل 15 عاما فإن 75 في المئة من الأثرياء البريطانيون توارثوا هذا الثراء من والديهم و25 في المئة منهم تمكنوا من الثراء بأنفسهم. أما الآن فقد انعكست الصورة. هذا التغيير في حجم الثراء ومصادره أنتج جيلا جديدا من الأثرياء الشباب، ما يعنى أنهم سيكون مخاطرين أكثر Risk Takers وعادة ما يكونون منفتحين أكثر على بعض الأفكار الجديدة. هناك أيضا زيادة في عدد المتبرعين الذين يفضلون أن يستمتعوا بميزة التبرع خلال حياتهم وليس من خلال «التركة» أو «الوصية» بعد موتهم.
هناك أيضا تغيير في الفكرة السابقة التي ترمي لادخار الوالدين مبالغ كبيرة لمستقبل أبنائهم بحيث أنهم يفضلون أن يعطوا المجتمع جزءا منها. كما يفضل المتبرعون أن يروا تأثير تبرعاتهم وهم على قيد الحياة وأن تبرعاتهم تم صرفها في المكان الصحيح. تميزت هذه الحقبة ببروز بعض الشركات الاستشارية التي تروج للتبرع وتساعد المتبرعين الحاليين والجدد لاتخاذ قرارات صائبة بالنسبة لتبرعاتهم. وقد ساعد على تطوير هذا المجال الاقتصادي توافر معلومات كافية عن حجم ونوعية التبرعات، وتوافر فرص لجمع التبرعات عن طريق الإنترنت والبحوث في جميع مجالات وأنشطة التبرع،. كما كان لدخول الأفراد المتبرعين بجدية في هذا القطاع أهمية قصوى للمنظمات الخيرية إذ إن هذه المنظمات تساهم بصورة كبيرة في تقديم خدمات عامة للمجتمع نيابة عن الحكومة.
في مقالي السابق عن التبرعات الأميركية ذكرت بعض التوصيات لما يمكن لمملكة البحرين عمله من أجل تطوير هذا القطاع المهم. ولكي نضمن بعض التطوير فإنه من الواجب العمل على تشجيع القيام ببعض التغييرات في القيم والمواقف والممارسات لمتخذي القرارات في العديد من الجهات المختصة وذات العلاقة وكذلك مكوني الرأي العام في البحرين.
الجمعيات والصناديق الخيرية
للحصول على مؤازرة كاملة من المتبرعين الدائمين الكبار فإن على الجمعيات الصناديق الخيرية أولا الاستثمار في تكوين علاقات وثيقة معهم ومعرفة اهتماماتهم بدلا من التعامل العادي السطحي غير المركز. أيضا عليها تكوين ثقافة خاصة بجمع المال مع المتبرعين من المؤسسات والشركات الكبيرة وكبار رجال الأعمال بحيث تتماشى مع رؤيتهم ورسالتهم لضمان الاستمرارية في تدفق التبرعات. كما أنه من المهم الالتفات إلى كفاءة ومقدرة الأشخاص المخولين العاملين في هذه الجمعيات والصناديق الخيرية بالتعامل مع هذه الشركات الكبيرة وتدريبهم لتكون لهم القدرة الكافية على تطوير هذه العلاقات للأفضل.
الحكومة
يمكن أن تلعب الحكومة دورا كبيرا في تنمية الاستراتيجيات الخاصة بالتبرع باستحداث تخفيضات معينة مثلا على الرسوم الحكومية للشركات والمؤسسات التي تتبرع بمبالغ كبيرة. كما أن من واجبها تشجيع هذه الشركات والمؤسسات الكبيرة لوضع برامج خاصة بالمسئولية المجتمعية وتحديد نسبة معقولة من أرباحها للعمل الخيري. وكذلك تشجيع كبار موظفيها لتحديد نسبة من رواتبهم الشهرية كتبرعات مباشرة.
المدارس والجامعات لها دور كذلك في إدخال فقرات خاصة في المنهج الدراسي عن «المواطنة» تحث على الاهتمام بالعمل التطوعي والأنشطة الخيرية.
كما أن من واجب وزارة التنمية الاجتماعية تسهيل الإجراءات واللوائح فيما يخص الجمعيات والصناديق الخيرية وتشجيع الشركات والمؤسسات الكبيرة لاستحداث إدارات خيرية خاصة بها كما تفعل بعض المؤسسات الوطنية الصغيرة في البحرين وتحويل بعض من أسهمها لهذه الإدارات.
التجار والشركات والبنوك الكبيرة
يمكن للشركات والبنوك الكبيرة أن تحفز موظفيها الكبار الذين تصل رواتبهم إلى مستوى معين على الالتزام بدفع نسبة معينة من رواتبهم وكذلك تخصيص بعض من أوقاتهم للأعمال الخيرية التطوعية والقيام بالإعلان عن ذلك في التقارير السنوية لهذه الشركات.
كما هو الحال في أميركا وبريطانيا، فإنه يمكن إنشاء مؤسسات أو شركات استشارية لمساعدة الحكومة والشركات والبنوك الكبيرة على تحديد استراتيجياتها للتبرع وتوفير المعلومات والاستشارات اللازمة في الوقت المناسب. على الأثرياء في البحرين - وهم كثر ويزدادون ثراء ولله الحمد - أن يأخذوا في الاعتبار أهمية التبرع كجزء من حياتهم اليومية والنظر في أفضل الطرق للتخطيط لحجم ونوعية ومجالات وأوقات تبرعاتهم. وكذلك التأكد من أن سلوكهم للتبرع يكون عادة متبعة في العائلة، إن كانت شركاتهم من الشركات العائلية، ونقل ذلك للأبناء جيلا بعد جيل أو ضمن سياسة متفق عليها تتماشى مع رؤية ورسالة الشركات والبنوك الكبيرة.
الصحافة
كما تلعب الصحافة والإعلام دورا كبيرا في نشر الوعي الخاص بأهمية التبرع من خلال نشر أخبار وقصص التبرعات الكبيرة ونشر المعلومات المتوافرة عن حجم الثراء في المجتمع ومصادره وعامليه وكذلك المعلومات عن حجم التبرعات بالنسبة لحجم الثراء وحاجة المجتمع والمجالات التي يمكن أن تستفيد أكثر من هذه التبرعات.
وأخيرا، لو قدر لهذه التوصيات أو بعضها أن تنفذ فإنه على مدى السنوات المقبلة سيكون هناك تغيير شامل وراديكالي في مجال العمل التطوعي وتنمية ثقافة قوية في مجال التبرعات في البحرين. فهل نحن جاهزون؟
إقرأ أيضا لـ "حسين مدن"العدد 2122 - الجمعة 27 يونيو 2008م الموافق 22 جمادى الآخرة 1429هـ