عاد خبراء الوكالة الدولية للطاقة الذرية الأربعاء الماضي إلى فيينا بعد أن قامت البعثة الدولية بمهمة التفتيش في «موقع سري» في شمال سورية دمرته غارة إسرائيلية في العام الماضي. المهمة غامضة فهي جرت تحت عنوان البحث عن هوية الموقع بقصد استكشاف صحة المعلومات التي تقول إن المبنى مؤسسة تصنيع عسكرية أو مفاعل لإنتاج الطاقة النووية. وتأتي المهمة الدولية الغامضة في أهدافها جوابا لعدم وضوح هوية الموقع. فالحكومة السورية نفت كل المعلومات التي تقول إن المبنى مؤسسة عسكرية للإنتاج النووي وردت على الاتهامات بالتأكيد على سلمية الموقع وعدم وجود خطة للتصنيع النووي. وزاد من غرابة الموضوع عدم وجود أدلة تثبت صحة الافتراءات مقابل عدم مسارعة دمشق إلى توضيح حقيقة الموقع بالأدلة المضادة.
بسبب ضياع هوية المكان تعرضت الغارة الإسرائيلية إلى تأويلات وتفسيرات حاولت تضخيم الموضوع وتحويله إلى مادة دسمة تبالغ في خطورة المؤسسة ووظائفها العسكرية والنووية. الغموض أعطى ذريعة للولايات المتحدة لتقوم بالضغط على الوكالة الدولية والطلب منها إرسال بعثة للتفتيش والاطلاع مباشرة على وظيفة الموقع الذي سوي بالأرض وأعيد بناء موقع مكانه. وساهم الضغط الأميركي في إقناع الوكالة الدولية بإرسال بعثه تألفت من ثلاثة خبراء تكون مهمتها زيارة الموقع وأخذ عينات من التربة لدراستها وتحليلها لمعرفة صحة ما يشاع عن وظائف تلك المؤسسة.
هذا ما حصل بالتعاون مع الحكومة السورية. فالبعثة التي قامت بأول زيارة تفتيش من نوعها في الأراضي السورية عادت إلى فيينا حاملة معها عينات من البيئة قد تدل على وجود جزئيات يورانيوم. ولكن رئيس البعثة اولي هاينونن رجح عدم وجود أدلة في تلك العينات في اعتبار أن المفاعل المزعوم كان قيد التأسيس وبالتالي من العبث العثور على آثار مادة غير موجودة أصلا.
إذا كان الأمر كذلك لماذا تستخدم الوكالة الدولية هذه المناورة؟ وما هو القصد منها؟
هناك تفسيرات غير مؤكدة. فالوكالة لا تستطيع إلا القبول بالمهمة لتخفيف الضغط الأميركي من جهة والتأكد فعلا من صحة الرواية السورية عن سلمية المؤسسة من جهة أخرى. إلا أن الأمر يمكن أن يتعدى إطار بعثة التفتيش العادية في حال كشفت المختبرات عن وجود «جزئيات يورانيوم» في العينات. وهذا الاحتمال لا يستبعد إذا وضعت المسألة في إطار الضغط السياسي على دمشق. فالقصد من إرسال بعثة التفتيش ليس بالضرورة محاولة للتأكد من صحة الاتهامات الإسرائيلية بقدر ما يكون محاولة للضغط على دمشق لانتزاع تنازلات في جوانب مختلفة تتصل بالكثير من الملفات الإقليمية الساخنة.
العينات (تربة الموقع المدمر) أصبحت الآن في مختبرات الوكالة في فيينا ويرجح أن تنشر بعثة التفتيش تقريرها عن المهمة في سبتمبر/ أيلول المقبل. وبانتظار أن تنتهي مهلة الشهرين وتتوضح أسرار «الموقع» وتنكشف هويته وينقشع الغموض ويعرف ما إذا كانت المؤسسة عسكرية نووية أو مجرد مبنى عادي يرجح أن يستمر التفاوض في هذه المرحلة مع دمشق بشأن ملفات أخرى على صلة قريبة أو بعيدة بذاك المكان الذي أغارت عليه الطائرات الإسرائيلية.
دمشق تمر الآن في منعطف صعب وهي مطالبة بالرد على مجموعة أسئلة تتجاوز حدود الموقع المجهول الهوية الذي يمكن أن يتحول إلى ذريعة لفتح ملفات أخرى انطلاقا من نتائج تحليل المختبرات لتلك العينات. النتائج ستنشر في «تقرير سبتمبر» ويمكن أن تستخدم سلبا وإيجابا بحسب ما ستسفر عنه المفاوضات الجارية مع دمشق في أكثر من مكان وعلى مستويات مختلفة. فهناك العصا (نتائج تحليل المختبرات في تقرير سبتمبر) وهناك الجزرة التي بدأت العواصم الأوروبية بتلميع فوائدها السياسية وثمارها الاقتصادية. وبين العصا والجزرة يمكن توقع الكثير من الاتصالات والانفعالات خلال المهلة الزمنية التي ستنتهي بعد شهرين من الآن.
عصا وجزرة
دمشق دخلت منذ فترة طويلة طور المفاوضات الصعبة مع عواصم الغرب و«إسرائيل» وهي بدأت منذ فترة قصيرة مرحلة وضع اللمسات الأخيرة على «صفقات» إقليمية يمكن أن تعزز موقعها ودورها في حال اكتشفت المختبرات الدولية خلو العينات (التربة) من «جزئيات يورانيوم». ويمكن أيضا أن تنقلب الصورة سلبا في حال توصلت البعثة في تقريرها إلى وجود عناصر مقلقة تثير شبهات بشأن مشروع نووي قيد التأسيس.
المسألة إذا سياسية وهي مرهونة بتلك المفاوضات الجارية على قدم وساق في أكثر من مكان وعلى مختلف الأصعدة والملفات. ونتائج «تقرير سبتمبر» ربما تخضع للصعود والهبوط بقدر ما تتوصل تلك المفاوضات إلى توافقات ترتبط باستحقاقات إقليمية تريد واشنطن إنجازها قبل البدء في معركة الرئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
نجاح المفاوضات الجارية على مستويات مختلفة يحدد إلى حد معين طبيعة «تقرير سبتمبر» وحيثياته. فهناك مثلا لقاءات أميركية - سورية متواصلة وغير منقطعة بشأن الملف العراقي. واللقاءات تتم دائما تحت عناوين متنوعة في استهدافاتها فمرة تحصل لمتابعة «شبكات الإرهاب» في بلاد الرافدين ومرة لمعالجة أزمة اللاجئين العراقيين في سورية والطرق الصحيحة التي يراد اتباعها للمساعدة على حل مشكلاتهم الإنسانية والاجتماعية. وهناك المفاوضات التي تديرها فرنسا من خلال رئاستها لدول الاتحاد الأوروبي للبحث في ملفات متلونة تبدأ في الجولان و «أمن إسرائيل» وتنتهي في لبنان وسيادته واستقلاله. وتترافق تلك المفاوضات الفرنسية - السورية مع خطوات أوروبية أظهرت لدمشق استعدادها للحوار والاستثمار وتطوير شبكات الاتصال والتنمية والدعم التقني وفتح الأسواق. وهناك أيضا المفاوضات غير المباشرة بين دمشق وتل أبيب التي جرت في أنقرة وتوصلت إلى نتائج إيجابية بحسب وصف الوسيط التركي. وهذه النتائج التي دخلت طور الإجراءات العملية يرجح أن تستكمل لمساتها الأخيرة بعد أن ذكرت «القناة التركية» عن وجود تفاهم على عقد اجتماع أو أكثر في الأسابيع المقبلة لتوضيح ما اتفق عليه في لقاءات سابقة.
إلى هذه المفاوضات التي توزعت على جبهات دولية (بعثة التفتيش) وأميركية (ملف اللاجئين العراقيين) وفرنسية (دعوة الرئيس السوري إلى باريس للمشاركة في القمة الأوروبية - المتوسطية) وأوروبية (زيارات وفود دبلوماسية وبعثات اقتصادية للبحث في تطوير العلاقات وفتح الأسواق) وتركية (الإعلان عن استمرار اللقاءات السورية - الإسرائيلية في أنقرة) هناك تسهيلات أقدمت عليها دمشق في الملفين اللبناني (اتفاق الدوحة) والفلسطيني (اتفاق التهدئة في قطاع غزة). وكل هذه الاتصالات التي ارتسمت معالمها السياسية على المشهد الإقليمي محكومة دوليا بتلك النتائج التي ستتوصل إليها مختبرات فيينا بعد فحص العينات التي حملتها معها بعثة التفتيش من الموقع المجهول والغامض الذي قصفته الطائرات الإسرائيلية في العام الماضي.
«تقرير سبتمبر» سيكون من تلك الإشارات التي تنبه إلى وجود علامات جيدة أو سيئة من ناحية خصوبة العينات أو خلوها من «جزئيات» كذلك من ناحية نجاح تلك المفاوضات في التقدم العملي بشأن ملفات المنطقة الساخنة وموقع سورية ودورها المرسوم في محيطها الإقليمي (الجغرافي). فالتقرير الدولي بشأن الموقع يعتمد السياسة واسطة للضغط ومادته التي تخضع الآن للنقاش والتفاوض يمكن أن تظهر عناصرها السلبية أو الإيجابية قبل انتهاء المهلة الزمنية في سبتمبر المقبل.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2122 - الجمعة 27 يونيو 2008م الموافق 22 جمادى الآخرة 1429هـ