قد لا يَفْرق بين حرب تُعَمّر فيها البنادق فتتهشّم فيها جماجم المقاتلين (والمدنيين) وبين حرب تُيبّس فيها حناجر الجنود (أو الشعوب) ظمأ لكأن الهَيْف قد أصابها كما يُقال. وإن تمثّل الموت في كلتاهما فهو في الأولى فناء وفي الثانية حَسّا بعد هلاك. نعم إنها نُذُر حرب المياه.
في العام الأول لعقد التسعينيات من القرن الماضي اندلعت إحدى وخمسون حربا بين دول مختلفة، وفي العام الثاني والثالث من الألفية الجديدة اندلعت إحدى وستون حربا بين دول أخرى. وما بين التاريخين الأول والثاني كان هناك مئة نزاع إقليمي وسبعة وعشرون حربا أهلية (راجع تقرير أندريو ماك، مدير مركز الأمن الإنساني في مقر الأمم المتحدة).
وإذا ما فُتِحت ملفات تلك الحروب والنزاعات فإن إحدى دفوعها الأساسية هي المياه ضمن منظومة المصالح. فأزمة المياه باتت لا تقل عن أية أزمة عالمية أخرى بدءا من النفط وانتهاء بالرهن العقاري، وخصوصا أن 97.5 في المئة من مياه العالم هي مياه مالحة وغير صالحة للاستخدام الآدمي، في حين أن 2.5 في المئة فقط صالحة للشرب، لكن ثلثيها جليد مؤبّدٌ في محيطي القطبين المتجمدين في الشمال والجنوب، وما تبقى من تلك النسبة هو مياه جوفية متناثرة يحتاج استعمالها إلى معالجة بحسب تقرير هنري سانداي، على الرغم من وجود مئتين وأربعة عشر نهرا في العالم.
في محيطنا العربي الذي يُشكّل عُشر مساحة اليابسة لا يملك طوله وعرضه سوى 1 في المئة من كل الجريان السطحي للمياه، و2 بالمئة من أمطار العالم فقط، وهو ما يعني أن ثلاثين في المئة من الأراضي الزراعية فيه تنتظر كارثة التصحّر، مع العلم أن 43 في المئة من الأراضي العربية هي صحراء قاحلة (راجع تقرير شُح المياه في الوطن العربي... الخطر القادم الصادر عن الجزيرة الإخبارية).
ما يزيد الأمر خطورة هو أن نسبة كبيرة من مياه الأنهار التي تعتمد عليها الدول العربية تأتيها من خارج أراضيها بكمّية تزيد على 125 مليار متر مكعّب، وخصوصا من نهر النيل المتدفق من وسط إفريقيا ونهري دجلة المتدفق من جبال طوروس التركية والفرات المتدفق من حوض الأناضول التركي.
وإذا كانت الدول التي تسبح في مياه النيل ودجلة والفرات ونهر الأردن تلقى صعوبة في تأمين المياه الجارية على أراضيها فما بالك بدول الخليج التي تعتمد بشكل كبير على مياه التحلية، وتواجه نقصا حادا في كمية الأمطار؟ وعندئذٍ فإن الخيارات الأصعب ربما تواجهها هذه الدول أكثر من غيرها.
ومع ورود التقارير المالية التي تفيد بأن الدول النفطية في «أوبك» ستحقق إيرادات ستصل إلى 762 مليار دولار هذا العام فإن من الضروري أن تستثمر دول الخليج هذه الأموال لإنتاج بدائل عملية تُواجه بها أزمة المياه المتعاظمة.
وقد خطت كل من قطر والكويت خطوات نوعية في هذا المجال بعد توقيعهما اتفاقا لاستيراد الماء العذب من نهر قارون الإيراني (760 مليون ليتر من المياه يوميا هي حصة الكويت). وعندئذٍ فإن هذا الخيار يبقى مطروحا أمام بقية الدول الخليجية الأخرى حتى ولو تمّ استيراده عبر طرف ثالث.
إن تأمين مستقبل المخزون المائي لمنطقة الخليج يبقى همّا حقيقيا في ظلّ معاناة شبه عالمية لمعضلة المياه ولحالة الجفاف التي باتت تُهدد الكثير من مناطق العالم، وأيضا في ظلّ صراع محموم بين قوى إقليمية ودولية للسيطرة على هذا المورد وخصوصا في منطقة القرن الإفريقي والبحريات العظمى.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2120 - الأربعاء 25 يونيو 2008م الموافق 20 جمادى الآخرة 1429هـ