حتى اللحظة لم يتوفق رئيس الحكومة المكلّف فؤاد السنيورة في تأليف الوزارة بسبب الخلافات على توزيع الحقائب والمناصب وفق ما تقتضيه المعادلة النسبية للفرقاء. الأزمة موقوفة بانتظار الحل. والحل ينتظر التوافق على اسم وزير الدفاع والجهة التي ستدير هذا الموقع السيادي.
مشكلة الدفاع تحوّلت إلى عقدة. والعقدة تشكّلت بسبب الخلاف على اسم الياس المر وهو الوزير الذي تحمّل مسئولية الحقيبة في السنوات الثلاث الماضية. والخلاف على ترشيح المر يعود إلى غموض هوية الوزير السياسية. قوى 14 آذار تعتبر عائلة المر مُحايدة وهي غير محسوبة على طرف، الأمر الذي يعطي فرصة لرئيس الجمهورية بإعادة تكليفه بهذه الحقيبة السيادية. قوى 8 آذار تعتبر عائلة المر أقرب إلى فريق 14 آذار وترفض أنْ يتحمّل مسئولية حقيبة سيادية من دون مقابل. عائلة المر ترفض تصنيفها سياسيا وتعتبر أنّ قاعدتها الأرثوذكسية تشكّل منطقة وسطى تعتمد نهْج الحياد وتدعم تقليديا رئاسة الجمهورية وتتعامل دائما مع الرئيس بغض النظر عن هويته ومنطقته وسياسته.
«عقدة المر» تعطي فكرة عن تعقيدات السياسة اللبنانية وتشكّل عيّنة ملموسة يمكن اعتمادها اجتماعيا؛ لتوضيح ملابسات التحالفات المحلية التي تتعرض دائما للمتغيرات والتعديلات بحسب الظروف. فهذه العائلة الأرثوذكسية المتنية (المتن الشمالي) أسست مواقعها الخاصة في القضاء خلال فترة العقود الأربعة الماضية من خلال التحالف الموضعي مع رئاسة الجمهورية التي ضمنت لها لعب دور خدماتي في قضاء المتن الشمالي على مستوى البلديات والوظائف العامّة.
بسبب هذا الدور نجحت العائلة في تشكيل شبكة علاقات خدماتية امتدّت على مختلف بلديات القضاء فأعطتها قوّة مستقلة أخذت تنمو ميدانيا إلى أنْ تحوّلت إلى كتلة تصويتية مهمّة ترجّح كفة التوازن بين القوى المتنافسة على المقاعد النيابية في المتن الشمالي. قوّة العائلة تصويتية وليست سياسية، وهي تعتبر قاعدتها الانتخابية أقوى من الأحزاب الأيديولوجية المتنافسة. فالأحزاب تحتاج إليها وهي ليست بحاجة إلى الأحزاب.
من هذا المنظار يرى عميد العائلة (ميشال المر) أنّ قوّته التصويتية تمثل عامل ترجيح لموازين التنافس على مقاعد القضاء. فمَنْ يتحالف معه يربح ومَنْ يتخاصم يفشل. في انتخابات دورة 2005 تحالف معه تيّار الجنرال ميشال عون ففاز في كلّ مقاعد القضاء باستثناء ذاك الذي نجح في انتزاعه بيار أمين الجميل. وحين اغتيل النائب والوزير الشاب جدد ميشال المر دعمه لمرشح عون وأدّى الأمر إلى فشل أمين الجميل في معركة الانتخابات الفرعية. فالمر الأب يعتبر نفسه أقوى من عون وكتلته ويتمتع بشعبية خاصة تتفوّق على الكتلة التصويتية لقوى 14 آذار في دائرة المتن الشمالي. ولهذا السبب الخاص فهو يرفض أنْ يصنّف في معسكر 8 آذار أو كتلة عون وهذا ما دفعه إلى الخروج والاستقلال عنه نتيجة خلافات في وجهات النظر تتعلّق بانتخابات الرئيس وترشيح قائد الجيش ميشال سليمان آنذاك إلى هذا الموقع. كذلك يرفض أنْ يصنّف من معسكر 14 آذار؛ لكونه كان في جبهة مضادة له منذ تشكّله في العام 2005.
عائلة المر تقليديا من حزب الرئيس. ومن يقبع في قصر بعبدا يعتبر ضمنا ذاك الحليف السياسي للعائلة. في عهد الجنرال إميل لحود كانت العائلة إلى جانب الرئيس وخاضت معه صولات وجولات في معاركه السياسية والنيابية ودعمته لحسابات محلية وعائلية (مصاهرة) في أكثر من مكان وطور. ابن ميشال المر (وزير الدفاع الياس) زوْج ابنة لحود وهو كان إلى جانب عمّه من دون تردد إلى أنْ وقع حادث محاولة الاغتيال وكادت أنْ تودي به. محاولة الاغتيال كسرت علاقات المصاهرة بين المر ولحود ولكنها لم تحطم تلك الاتصالات التقليدية على مستوى القضاء وحسابات المتن الشمالي المحلية.
اهتزاز العلاقة
اهتزاز العلاقة بين العم (الرئيس لحود) والصهر (الوزير المر) ترافق مع تحوّلات زعزعت لاحقا التحالف الانتخابي بين الجنرال عون وعميد عائلة المر (ميشال). فعون كان يطمح لمنصب الرئيس بينما أيّد حليفه ميشال المر ترشيح قائد الجيش (ميشال سليمان) لهذا الموقع. وأدّى الاختلاف على اسم الرئيس المرشح إلى كسر التحالف الانتخابي بين عون والمر وانتهى الأمر إلى فوز سليمان في معركة الرئاسة وخروج عون من اللعبة.
«عقدة المر» واضحة في ملابساتها. الأب (ميشال) دعم الرئيس الحالي منذ البداية وخالف طموح عون بالمنصب. الابن (الياس) غير محسوب سياسيا على 8 أو 14 آذار وهو يؤيّد الرئيس ويدعمه. والرئيس يفضّل أنْ يبقى الياس المر في موقعه الحالي (وزير الدفاع)؛ لأنّه تعاون معه بنجاح خلال قيادته للجيش. عون يرفض توزير المر الابن انتقاما من الأب. والأب يؤكّد أنّ ابنه هو مرشّح الرئيس ولا ينتمي إلى 14 آذار حتى يحتسب مقعده من حصتها. و8 آذار ترفض الذريعة وترى أنّ المر انحاز وانتقل من كتلة عون إلى جانب خصومه.
كلّ هذه الخيوط تشكّل تفصيلات غير مرئية. ولكنها في النهاية تعطي عيّنة مصغرة عن تضاريس السياسة اللبنانية ودور العائلات في ترجيح قوّة على أخرى. وعائلة المر الأرثوذكسية في المتن الشمالي تمثل تلك الكثافة التصويتية التي تحتاج إليها القوى السياسية في المعركة الانتخابية التي يرجّح أن تحصل في ربيع العام 2009. والخلاف الحاصل الآنَ بين الجنرال عون والأب ميشال على توزير ابنه الياس في حقيبة الدفاع يختزل صورة المواجهة الانتخابية التي ستقع في الدورة النيابية المقبلة. فالجنرال يريد أنْ يؤكّد أنه الأقوى وليس خائفا منه. وعميد عائلة المر يُرسل إشارات تنبيه للجنرال ويحذره من التطاول؛ لأنّ ذلك قد يكلّفه سقوط لائحته في معركة 2009.
هذا الصراع المعقد يكشف عن تعقيدات السياسة اللبنانية التي لا تظهر خيوطها الخفية على الشاشة المرئية. ولكن مجرى الصراع الذي أخذ يتطوّر بات ينذر باحتمال الانفجار على قاعدة عدم التوافق على توزير الياس المر في موقع الدفاع.
الوضع اللبناني وصل إلى شفير الانتحار السياسي. هذا التحذير ورد في خطاب رئيس الجمهورية في مناسبة افتتاحه للقمّة الروحية التي انعقدت أمس الأوّل في قصر بعبدا. وجاء تحذير الرئيس ميشال سليمان في ضوء تداعيات الحال الأمنية في طرابلس (الشمال) وانزلاقها رويدا نحو فتنة مذهبية في وقت راوحت أزمة فراغ الحكومة في مكانها من دون حل.
«القمّة الروحية» حذرت من استخدام السلاح في حل المشكلات السياسية، وخطاب الرئيس أنذر الفرقاء من تطويل الأزمة الحكومية؛ لأنها أخذت تدفع بالبلاد نحو الانتحار. والأطراف المحلية الموزعة على تحالفين (8 و14 آذار) تتراشق الاتهامات بالعرقلة وجرّ البلاد نحو فتنة طائفية - مذهبية. وكلّ هذا يحصل تحت سقف الاختلاف على توزير الياس المر وعدم وضوح هويته السياسية.
«عقدة المر» باتت تشبه «الطابق المر» في العمارة اللبنانية. فالأبنية المخالفة يطلق على طابقها الأخير (الإضافي) وصف «المر». وهذا الوصف يمكن سحبه على الخلاف الحاصل على «مقعد المر» في الحكومة الأولى من عهد الرئيس الجديد.
«مقعد المر» يتجاوز حدود تشكيل الوزارة ويُرسل إشارات عن طبيعة التحالفات الانتخابية في دورة 2009. فالرئيس سليمان يريد إبقاء المر في وزارة الدفاع لحسابات تتجاوز المقعد الوزاري وإذا تخلّى عنه فإنه بذلك أرسى قواعد تخالف التفاهمات التي سبقت انتخابات رئاسة الجمهورية. والأب لا يستطيع التخلّي عن ابنه حتى لا ينهار عقد التحالفات التي يمكن تختلط أوراقها في ضوء تشكيل اللوائح الانتخابية في العام المقبل. وعون الذي يتخوّف من قوّة المر التصويتية في المتن الشمالي يُريد تسجيل هدف في مرمى حكومة السنيورة قبل تشكيلها حتى يضمن لكتله حقيبة سيادية من حصة قوى 14 آذار. و14 آذار لا تريد المغامرة بوزارة مهمّة وفي الآنَ تطمح لتطوير علاقاتها الانتخابية مع عميد عائلة المر؛ لكسر لائحة عون في قضاء المتن الشمالي. المعركة إذا نيابية وليست وزارية والتوافق على «مقعد المر» يعطي إشارة للتحالفات السياسية التي لم تتوضح معالمها في مطلع عهد الرئيس الجديد.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2120 - الأربعاء 25 يونيو 2008م الموافق 20 جمادى الآخرة 1429هـ