لا صوت يعلو هذه الأيام على أصوات الفقراء وأنينهم الذي كان مكتوما فأصبح صارخا، فالجوع كافر، ولا حديث يسبق في الأهمية حديث سرعة اتساع مساحات الفقر، ولا تهديد للأمن القومي بل للوجود ذاته مثل تهديد الانفجار من الداخل نتيجة الفقر.
لقد ظللنا عقودا نعيش ونصبر ونجوع ونعرى، توفيرا لنفقات دعم المجهود الحربي، لمواجهة العدو الصهيوني، الذي أشاع في الأرض فسادا وقتالا واستنزف بمعاركه وغزواته واحتلالاته الجانب الأكبر من الثروة في المنطقة العربية، وخصوصا في دول تحملت المسئولية التاريخية منذ البداية، مثل مصر وسورية والأردن ولبنان وفلسطين بالطبع... كان هناك هدف!
الآن صحت شعوبنا من غفلتها لتفاجأ بمتغيرين رئيسيين، أولهما أن معظم العرب صاروا أصدقاء، علنا أو صمتا، لـ «إسرائيل»، وما المناوشات العسكرية الجارية الآن في فلسطين تحديدا إلا بروفة النهاية، وثانيهما أن الاستنزاف قد بلغ مداه للثروات الوطنية والقومية، لم يكن الإنفاق الحربي وحده في هذا المجال، ولكن غياب الحرية والنظم الديمقراطية والمراقبة والمحاسبة، أدى إلى مسالك كثيرة لاستنزاف الثروات، أهمها الفساد والتهريب والتربح على حساب الشعب... والنتيجة النهائية هي فقر في فقر!
يرسم البعض في الغرب الأوروبي الأميركي، صورة ذهنية للعرب عموما، خلاصتها أنهم قوم جهلاء أثرياء هبطت عليهم ثروة نفطية هائلة، تحولوا معها من رعاة معدمين إلى أباطرة أثرياء بلا عقل أو ضمير... لكن الحقيقة هي غير ذلك ليس كل العرب أثرياء، فالعرب اليوم عربان، عرب النفط وعرب القحط، وبينهما فوارق شاسعة، ليس فقط من الثروة ولكن أيضا من المعاناة والتفرقة.
يكفي أن نعرف أنه في مواجهة ست أو سبع دول عربية تتمتع بدخول نفطية مميزة، فإن هناك عددا أكبر منها تعاني الفقر بالمعنى الحرفي للكلمة، تلك الدول التي تعاني نقص الإمكانات وضعف الثروات مع زيادة السكان وتصاعد البطالة والغلاء وصولا للفقر... وهنا نضع على سبيل المثال مصر والسودان واليمن وموريتانيا والمغرب وفلسطين والصومال والعراق بعد الاحتلال الأميركي، إذ شهدت السنوات الأخيرة تدهورا في مستويات المعيشة بهذه الدول، وورود أسمائها في التقارير الاقتصادية الدولية المعتمدة ضمن الدول الفقيرة والأفقر في العالم كله. وحين نعلم أن مجموع المواطنين العرب من المحيط إلى الخليج يكاد يبلغ 280 مليون نسمة، فإن ربعهم تقريبا يتكدس في مصر، وإن هناك 70 مليون عاطل عربي و70 مليون أمي و40 مليون مواطن يعانون سوء التغذية نتيجة الفقر، وحين نتحدث عن موريتانيا مثلا فإنها تضم نحو 3.3 ملايين مواطن، 46 في المئة منهم تحت خط الفقر و60 في المئة أميون، أما في مصر فحدث ولا حرج.
يجري المصريون بقفزات الأرانب نحو الثمانين مليونا، تسارع معهم معدل الفقر، من 39 في المئة العام 1974 إلى 43 في المئة العام 2000، إلى 48 في المئة الآن، وفقا لتقارير دولية، وإن كانت الحكومة تقول إن المعدل الحالي هو 22 في المئة فقط، ولكي تكتمل الصورة نذكر أن نصيب الفرد من الدخل القومي في مصر هو 4200 دولار سنويا، مقارنة بنحو 24.3 ألف دولار للفرد الإسرائيلي و24 ألفا للإماراتي و20.7 ألفا للبحريني و19.3 ألفا للكويتي، ولك أن تقارن بين هذا وذاك لتكشف فجوة الفقر الحالة بنا.
والخطورة لا تكمن فقط في تصاعد حدة الفقر ولسعة مرارته في حلوق الفقراء، بل تزداد قسوة مع تعمد المسئولين والحاكمين إنكار اتساع مساحة الفقر والفقراء، وإصرارهم على نجاحهم في محاربة الفقر، ومن دلائل ذلك الادعاء ما صرح به، على سبيل المثال، وزير التنمية الاقتصادية المصري عثمان محمد عثمان في يوم 14 يونيو/ حزيران 2008، من أن نحو 12 في المئة ممن كانوا تحت خط الفقر العام 2005 قد تعدوه وصعدوا فوقه، نتيجة تحسن أوضاعهم الاجتماعية!.
ولم تكن هذه هي المفاجأة الوحيدة في حديث الوزير المسئول، بل إنه فجر قنبلة ذات عيار ثقيل، حين قال إن 167 جنيها مصريا فقط هو خط الفقر للمواطن شهريا، بينما المعايير الدولية استقرت على أن دولارين أميركيين هما المعدل اليومي لخط الفقر، أي أكثر من 320 جنيها مصريا شهريا، والفارق لا شك كبير، وعلى الوزير المسئول أن يحسب لنا كيف تعيش أسرة من خمسة أفراد، بدخل 167 جنيها في الشهر وهو ثمن خمسة كيلوات لحم فقط، إن كان للحم مكان، طالما أن مرارة طعم الفقر قد حلت مكان طعم اللحم!.
لقد أدت السياسات الاقتصادية المتسرعة في بلد مثل مصر، إلى خلخلة التوازنات الاقتصادية الاجتماعية، فأطلقت آلية السوق وحرية العرض والطلب والخصخصة المنفلتة وبيع أصول الدولة بأسرع وأبخس الأثمان، فجرى في ظل الليبرالية الشرسة هذه نقل الثروات إلى فئات جديدة وشرائح صغيرة من رجال الأعمال ركبوا على رأس المجتمع، ودخلوا البرلمان وتولوا الوزارات المهمة، وطوعوا التشريعات القانونية والسياسات التنفيذية لتحقيق أقصى مصالحهم بأسرع الوسائل وأسهل السبل.
وبعد أن كانت مصر منقسمة إلى طبقات ثلاث، ثرية وفقيرة وبينهما الطبقة المتوسطة الأوسع والأكبر، أصبحت الآن طبقات ثلاث بمفاهيم مختلفة، هي طبقة الأثرياء الجدد وطبقة الفقراء الدائمين وطبقة تحت خط الفقر. وهي مع الثانية تضمان أكثر من 95 في المئة من الشعب المصري (يقول تقرير لجمعية من منظمات المجتمع المدني إن واحدا في المئة من الأثرياء، يمتلكون 50 في المئة من الثروة المصرية!)، الأمر الذي يعكس سوء توزيع الثروة بين فئات المجتمع وأفراده.
هذا هو معنى الفقر وطعمه المر، لقد انقسم المجتمع بشكل حاد ومتصاعد، بين ثراء فاحش وأموال مستنزفة، وثروات تزيد نتيجة المضاربات والاستيلاء على أراضي الدولة بثمن بخس وتجارة الاستيراد والتصدير المنفلتة والاحتكارات المحلية والدولية، وبين فقر مدقع يدفع بأغلبية المجتمع نحو الجوع والبطالة ومعاناة غياب الخدمات والمرافق وارتفاع الأسعار الجنوني، هكذا تتسع الفجوة ويختل التركيب الاجتماعي بشكل يهدد وجود مصر ومستقبلها، طالما أن السياسات القائمة عاجزة عن تطبيق تنمية بشرية حقيقية، وعاجزة عن مكافحة الفقر.
ولك أن تقارن فقط بين قصور المدن الجديدة، مدن الصفوة التي تعلن عنها الصحف بأسعار تصل إلى 40 مليونا للقصر المتوسط، وبين أكثر من 900 منطقة عشوائية في مصر، يسكنها 17 مليونا فقيرا بلا خدمات أو مصادر دخل، لتعرف ماذا يعني طعم الفقر!
في إحدى دراسات المركز القومي للبحوث الاجتماعية، يقول الباحثون: «إن المناطق العشوائية تقدم صورة مأساوية لحياة قطاع من السكان، أسر من خمسة أفراد أو أكثر يعيشون في عشة صغيرة من دون مرافق، رب أسرة عاطل أو عاجز، تتولى الزوجة الأم إدارة شئون الحياة بلا مصادر... مع ما يتركه ذلك كله من تأثيرات نفسية واجتماعية لا تقل قسوة عن نقص الماديات، تصل بمثل هذا الإنسان إلى الشعور التام بالعجز مرورا بالاكتئاب وانتهاء بالجريمة!».
هؤلاء إذا هم الفقراء، مجرد نموذج لأعدادهم المتزايدة، بما يشكل خطرا داهما على بنية المجتمع وتوازنه وتعايشه، فماذا أدى إلى ذلك.
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 2119 - الثلثاء 24 يونيو 2008م الموافق 19 جمادى الآخرة 1429هـ
ارجو منكم
اريد معنى كلمة القحط مااريد فقرة