فيما وافق عدد من المفكرين البحرينيين على ماجاء في «التقرير الاستراتيجي البحريني الأول» الذي صدر الأسبوع الماضي عن مركز البحرين للدراسات والبحوث، فقد أكد هؤلاء على أن الخروج من سجن الماضوية والانطلاق نحو المستقبل يحتاج إلى المرور عبر عملية المصالحة الوطنية، أو ما يطلق عليها بـ «العدالة الانتقالية» التي تغلق الماضي بعد أن تستفيد من دروسه وتنطلق نحو مستقبل لايكرر أخطاء الماضي.
وأكد مفكرون بحرينيون أن عبور المجتمع من رواسب الماضي يتطلب نشوء مصالحة اجتماعية بين مختلف مكونات المعادلة الوطنية، وخصوصا الفئات التي يمثل لها الماضي مرحلة قاسية. ودعا المفكرون الدولة إلى «الاستفادة من التجارب الدولية الناجحة، ومنها تجربتا المغرب وجنوب إفريقيا، إذ إن المصالحة الوطنية لها شروط موضوعية لا يمكن تجاوزها ومنها زرع الثقة وتأسيس ثقافة التسامح و تكريس العدالة الاجتماعية والعمل على إدماج كل المكونات الاجتماعية في التنمية الوطنية». ورأى المفكرون أن «دعوة التقرير الاستراتيجي البحريني إلى تطوير العمل السياسي نحو مزيد من التفكير المستقبلي وليس الماضوي والعمل نحو ابتكار وسائل للتعاون والتلاقي، أمرٌ في غاية الأهمية غير أنه لا يمكن أن يتحقق من دون تطبيق آليات واضحة لإبعاد آلم الماضي من الذاكرة الشعبية».
المصالحات المجتمعية
إلى ذلك أكد الوزير السابق والمفكر البحريني علي فخرو: أن كل ماضٍ يحتاج إلى أن تحلل محتوياته وهيكليته والأسس التي بني عليها وتفكك ومن ثم يعاد تجميعها من جديد بعد انتقادها، وبعد ذلك نتجاوز الماضي إلى المستقبل، لأن عملية المستقبل التي لا تربط بعملية الحفر في الماضي تكون عملية معلقة في الهواء، ولذلك يلاحظ الإنسان أن المفكرين يصرون على إعادة قراءة التراث وفهمه ونقده وثم بعد ذلك تجاوزه من دون فقدان الارتباط بين الماضي والمستقبل، والسبب واضح وهو أن اليوم سيكون ماضيا والمستقبل سيكون حاضرا ثم يصبح ماضيا أيضا وأي فصل بين الماضي والحاضر والمستقبل هو فصل تعسفي ليس له معنى. ويتساءل فخرو: «ما هو الفكر الماضوي؟، فربما يعني ذلك ألا تستعمل الفكر الذي حل مشكلات الماضي من أجل تحل به مشكلات المستقبل، ذلك أن الظروف والمعطيات تتغير، ولكن لا يوجد فكر في الحاضر والمستقبل لا ينبني على فهم وتدبر ونقد لفكر الماضي، ولا يمكن أن نتخلص من مخزون الماضي من دون معالجته واستحضار العبر منه».
ويشدد فخرو على أهمية الاعتراف بالماضي كضرورة لتنقية الحاضر قائلا: «لو كان الماضي ليست له قيمة لما رأينا دولا تعتذر عما فعلته في الماضي تجاه دول وشعوب وجماعات أخرى، فما الذي يجعل اليابان تعتذر لكوريا، لأنها تعتقد أنها أخطأت، وما الذي يجعل الأشقاء في الجزائر يطالبون فرنسا بالاعتذار عما فعلته في الماضي، وإذا أردت أن تنقي الأجواء المستقبلية، فعليك أن تنهي عاطفيا وذهنيا وأخلاقيا كل المساوئ التي حدثت في الماضي».
وأكد فخرو بأن «جراحات الماضي من أجل أن تلتئم فهناك دواء يجب أن يستعمل وليس فقط أن نعبّر عن تجاوزنا للماضي في صورة تمنيات ومناداة، ولذلك هناك مجتمعات كثيرة تحدثت عن إجراء المصالحة ومن ثم الانتقال إلى المستقبل، والمصالحات التاريخية لها رجالها وشروطها والأجواء التي تتم فيها، ولا يمكن إجراء مصالحة في جو مليء بالأحقاد، فهناك شروط موضوعية لإجراء المصالحات المجتمعية الكبرى لكي تتجاوز ذاكرة الشعوب مرحلة الماضي».
التوافق الوطني والتصالح
من جانبه أشار الوزير السابق والمستشار القانوني حسين محمد البحارنة إلى أن من طبيعة البشر العيش على إنجازات وإخفاقات الماضي، ويجب على الشخص ألا يتجرد من ماضيه بل يعتمد على تراث الماضي ليستفيد منه كعبر للنهوض بالواقع والتطلع للمستقبل والبناء. ولكن في الوقت ذاته - يضيف البحارنة - وحتى نضمن عبورا صحيحا إلى المستقبل يجب أن نبدأ في حل مشكلات التمييز والطائفية والتجنيس العشوائي ومشكلات الفقر القائم وغلاء المعيشة، يجب أن تتكاتف العناصر الوطنية مع العناصر الحكومية في مواجهة التحديات للخروج من هذه المأزق الذي لا يشجع على التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي تنشده الفئات المخلصة في الوطن. ورد البحارنة على إجراء المصالحة الحقيقية عبر التوافق الوطني نحو المستقبل ويقول: «ليس جديدا أن كل الدول التي تعاني من التمييز والتفرقة العنصرية حين تنشأ فيها حكومة وطنية ديمقراطية ينتظر منها أن تنظر إلى الملفات العالقة لتضع حلا للمشكلات التي يواجهها المجتمع الآن، فالمصالحة الوطنية مع السلطة مهمة كما حدث في المغرب وجنوب إفريقيا ودول أخرى أيضا، ويجب على السلطة أن تحل الملفات حلا جذريا بما يجعل هذه الفئات مؤهلة لأن تعبر نحو المستقبل بنجاح».
ومضى البحارنة قائلا: «يجب التركيز على المستقبل من دون إهمال مخالفات الماضي، ولا يمكن أن تصلح الوضع المستقبلي إذا كانت هناك تجاوزات في السابق لم يمتد إليها الإصلاح، ففي الدول الأخرى ولدت المصالحة من جبر الخواطر لكي يشعر الجميع أنه لا يوجد شخص في الوطن يتهم أنه غير وطني، وهذا يتأتى عبر تأكيد مفهوم الوحدة الوطنية كإطار جامع لكل المواطنين».
كما شدد البحارنة على أن الوضع القائم في البحرين يتأثر حتما من أي إخلال بالاستقرار، فمصلحة البحرين تقتضي التنمية الاقتصادية التي هي من أهم برامج الحكومة، ويجب أن يكون هناك نوع من التعاون بين السلطتين التنفيذية والتشريعية بما ينعكس على واقع الناس، وخصوصا الفئات التي عاشت حرمانا في الماضي.
وأكد البحارنة ضرورة إدماج كل فئات المجتمع في التنمية الوطنية «لا يكفي أن تقتصر التنمية على فتح مجالات الاستثمار التي حاصرت الفئات محدودة الدخل، بل يجب التركيز على توفير الاحتياجات والخدمات لكل فئات المجتمع، والسلطة التشريعية يجب أن تولي هذه المسألة أهمية كبيرة، ولكن مع الأسف فإن التشكيلة الطائفية للمجلس يجب أن يعاد النظر فيها، ويجب إدخال عناصر ليبرالية تحفظ التوازن وتمنع الصدام الطائفي ليكون المجلس أكثر تمثيلا للناس».
وأضاف البحارنة: «يجب أن تتركز المطالب على إجراء الإصلاحات الدستورية وإقناع الجهات الأخرى المتمسكة بالدستور الحالي بأن تدخل بعض التعديلات التي تساعد على تقدم المسيرة الديمقراطية في الدولة، ويجب إدخال بعض التعديلات التي تساعد البرلمان على ممارسة صلاحياته الحقيقية التشريعية والرقابية بصورة تتفق مع قيام المملكة الدستورية». وعبّر البحارنة عن تفاؤله بتخطي البحرين لآثار الماضي بنجاح، مضيفا: «لأن ضد التفاؤل هو التشاؤم وهذا لا يؤدي إلى أية نتيجة، والإنسان لا يستطيع أن ينتج طالما هو متشائم، كما أنه لا يمكن لأحد أن ينكر أن النهج الإصلاحي أعاد الثقة للناس، والوضع الحالي لا يمكن مقارنته بالماضي، وللسلطة التشريعية دور مهم في بعض هذه الإنجازات، و هذا لم يكن موجودا في الماضي، ولكن يجب الإسراع في إنجاز طلبات السكن فحتى الآن وصلت طلبات السكن إلى نحو 45 ألف طلب، والمعروض هو حل للطلبات التي قدمت في العام 1993، والمطلوب هو عمل المزيد من أجل توجيه الموازنة العامة للخدمات الاجتماعية والخدمات العامة وخصوصا لمحاربة الفقر».
إزالة الكوابح
وليس بعيدا عن ذلك يدعو الأمين العام للمنبر التقدمي حسن مدن إلى إزالة الكوابح التي تحول دون عبور الماضي بشكل جذري قائلا: «إذا أردنا أن ننتقل إلى المستقبل بصورة سليمة وسلسة فعلينا إزالة معوقات ذلك، وفي مقدمتها ذلك الإرث القديم الآتي من الماضي، لأننا لم نعالج وننهي الكثير من المشكلات التي عشناها في الماضي، وبالتالي ستظل تشكل كوابح أمام ذهابنا للمستقبل إذا لم نقم بمعالجتها».
وفي حين يقر مدن بأهمية قطع الماضي مضيفا: «اعتقد أننا جميعا نريد أن نقطع الماضي بإرثه الثقيل ولكن يجب أن نلتفت إلى معوقات التطور التي عشناها في الماضي والتي أخذت أشكالا جديدة من دون أن تزال، فلو تحدثنا عن التنمية فنحن لا نزال نعاني من غياب الرؤية الاستراتيجية التخطيطية للمستقبل ولا تزال الكثير من أمورنا تسير «كيفما اتفق» في غياب الخطة الواضحة لما نريد أن تكون عليه البحرين في المستقبل.
أما على صعيد المشاركة السياسية، قال مدن «نحن لا ننكر الإيجابيات التي تحققت في المجال ولكننا ما زلنا نبتعد عن المشاركة السياسية العصرية التي تحقق الشراكة الفعلية بين الدولة والمجتمع، فجميل أن يكون لدينا برلمان ولكن برلمانا بهذه التركيبة لن يأخذ البحرين إلى المستقبل، لأنه يفتقد آليات المشاركة والنظام الانتخابي والأسس الدستورية الصحيحة التي تؤمن هذه المشاركة».
ونفى مدن أن تكون المعارضة مأسورة بالماضوية: «نحن نعتقد أن جوهر الحقوق السياسية والدستورية لا يمكن أن يتغير، وإذا أردنا من المعارضة أن تتجاوز ذهنية الماضي وأساليبه فيجب على الدولة أن تعيد النظر في أمور كثيرة، وعلى سبيل المثال فإن من أهم الخطوات التاريخية التي تحققت في عهد جلالة الملك هي إلغاء قانون ومحكمة أمن الدولة ولكن الكثير من النصوص موجودة في الحرف في نصوص وتشريعات أخرى سارية وما زال معمولا بها حتى الآن، وهناك الكثير من الممارسات التي لا تزال متشعبة من الماضي». وأضاف مدن: «نحن نشاطر التفكير لمن يرى أن على المعارضة أن تطور أساليبها ولكن من باب أولى أن نطالب الدولة بأن تكيف أدواتها بمقتضيات الدولة لأنها في موقع اتخاذ القرار، ولكي نهيئ الناس للذهاب إلى المستقبل يجب أن نؤسس إلى قاعدة المستقبل والقطع مع الماضي من خلال إنهاء الممارسات التي سادت ويتطلب ذلك شجاعة حقيقة وتدابير مؤلمة، لذلك فالمسئولية كبيرة».
سلوكيات الدولة
أما الكاتب البحريني السيد كامل الهاشمي فعقب: «مهما أردنا أن نترك الماضي فيجب أن ندرك أن المسألة ترتبط بطبيعة الماضي، وليشكل الماضي دافعا للحركة ولاستثارة الأفكار تجاه المستقبل، فإذا كانت الدولة ولا سيما أن التقرير الأخير صدر من جهة مرتبطة به (مركز البحرين للدراسات والبحوث) فإن أهم ما يبقى من الماضي عالقا عند الناس هو سلوك الدولة خلال عقود الذي يجعل فئات المجتمع تتذكر ماضيها باستمرار، لأن هناك مثيرا يرجعها للماضي دائما». وقال الهاشمي «إن الدولة من خلال أساليبها الكثيرة تشعر الناس في أحيان مختلفة أنها غير جادة في الإصلاح وهذا يستنفر الذاكرة لدى الناس، ويحفز الماضي في وعي المجتمع، والمشكلة أن البحرين في مشروعها الإصلاحي لم تمر بمرحلة المصالحة، لأن الإصلاح يجب أن تسبقه مصالحة، وهذه نقطة محورية، لأن في الحال البحرينية أنجز جزء من المصالحة بشكل سريع ولم يستمر فيها، وكان يفترض أن تفتح جميع الملفات العالقة والمترسبة من آثار الماضي».
وأوضح الهاشمي أن «الدولة نجحت في إيجاد جو من الانفتاح السياسي وحرية الصحافة مع العام 2001، وقد تفاعل معها الناس بصورة كبيرة جدا، وتقدموا إلى الأمام في علاقتهم مع السلطة، ولكن عادت المسألة مرة أخرى بحزمة من المراسيم والقوانين المقيدة من جوهر الحقوق والحريات، وهو ما رفضه المجتمع، لأنه تجاوز تلقائية الشعور الإيجابي تجاه العهد الجديد». وأضاف الهاشمي قائلا: «العبور إلى المستقبل مهمة كبيرة، وأحيانا تكون معقدة، وهي تتطلب جرأة وصراحة، ولكن ما زاد في تعقيد الأمور وبث التشكيك في نفوس الناس، هو وجود مؤامرات في الخفاء كشف عنها «التقرير المثير»، وهذا التقرير يمثل نموذجا حيا بأن الدولة - أو بعض أطرافها- لم يستطيعوا حتى الآن أن يعبروا من الماضي للمستقبل، فالذهنية التي كانت في الماضي لا تزال تتحرك في الواقع بعناوين جديدة». و تابع الهاشمي: «حتى مع الإقرار بوجود أخطاء في ممارسات الجانب الشعبي خلال الحقبة الماضية ولكن في منطق الإدارة تتحمل السلطة الشطر الأكبر من المسئولية عن تلك الحقبة، والجميع لاحظ أن الدولة عندما اتخذت خطوات أولية أفصحت أن الناس قادرة على نسيان أو تناسي الماضي، ولكن الدولة لم تستمر في ذلك النهج الذي توقف بعد العام 2001، ويجب أن نعيد الثقة ونبث الأمل لدى الناس».
النظام الاجتماعي العادل يؤسس للتنمية
و اعتبرت عضو الهيئة المركزية في جمعية العمل الوطني الديمقراطي (وعد) زينب الدرازي أن تجاوز الماضي أمرٌُ مهم، ولكن هذه العملية لها شروطها وأولها أن نضع النقاط على الحروف، وبالتالي العدالة يجب أن تأخذ مجراها، لأن الحقوق والعدالة قاعدة يومية، وحتى يكون نسيج المجتمع متماسكا يتطلب ذلك تطبيق الإنصاف والمصالحة والتصالح مع الماضي بجرأة وشجاعة».
وطالبت الدرازي بفتح ملف العدالة الانتقالية: «يجب على الدولة أن تتعايش مع من تضرروا في الماضي والتفاهم معهم في خلق أجواء جديدة، صحيح أن علينا تجاوز الماضي، ولكن يجب ألا نطلق كلاما عاما فقط، فالبحرين هي مجموعة إثنيات وأعراق، وبالتالي يجب أن تشعر هذه الفئات بتكريس مبدأ المساواة، وهذه هي الجسور المهمة لعبور الماضي والتواصل مع المستقبل وتأسيس ثقافة التسامح». و شددت الدرازي على أن المصالحة هي مجموعة من الآليات «نحن نطلب من الدولة أن تكون لديها المبادرة، لأن القرار السياسي هو في يد الدولة، لأن القوى السياسية عاجزة وناقصة ولا تملك آليات التغيير الحقيقية (...) النظام الاجتماعي العادل لا يجعل فئات تشعر بالغبن وإنها مسلوبة من الحقوق أو أنها لا تتمتع بحقوقها كاملة، لأن المصالحة عملية تشاركية وليست أحادية الطرف».
العدد 2119 - الثلثاء 24 يونيو 2008م الموافق 19 جمادى الآخرة 1429هـ