في أمرِ الحذاء العراقي الهاوي على رأس زعيم الولايات المتحدة الأميركية أربعة دلالات. أن منتظر الزيدي جريء. وأن جورج بوش رياضي. وأن نوري المالكي شجاع. وأن الحادث كلّه (ليس) فريدا من نوعه.
الأول دفعته جرأته لأن يقذف بفردتي حذائه على رئيس دولة عظمى. والثاني دفعته رياضيته لأن يتفادى الضربة في غضون أجزاء من الثانية. والثالث شجاعته جعلته عصِيّا على تمييل وجهه أمام الضربة وبغتتها. والرابع لأن التاريخ وأحداثه مليئة برمي النعل والأحذية كقيمة مضافة للإيغال في إذلال الخصوم.
تصلُح الدلالة الرابعة لمزيد من الإطناب دون غيرها. هي ومن عُمق التاريخ تُذكّرنا بفِعْل ابن مسعود، عندما ضرب أحدهم بفردة خفه. أو قيام أحد أولاد الزبير بضرب أسين بن زيد بنَعلٍ كان في يده. وقد لا تهمّنا أحداث التاريخ بقدر ما تهمنا دلالاتها كسلوك يهدف للإكثار من الإهانة كما أسلفت.
اليوم ما جرى في حاضرة بغداد ليس رمية مُجرّدة. لماذا؟ لأن المُستهدف أكثر خلق الله شرا. عاش «أتفه» أوقات زعامته على أرضٍ هو يحتلّها وأرَاقَ فيها دما عبيطا، وحبرا غزيرا، ومساحة من الكذب أنست ما قبلها وأتعبت ما بعدها.
بعض من تناول واقعة الحذاء تسربل بمزيد من التقوى والخُلُق الحسن إلى حدّ السّأم، مُتخيلا حاله وكأنه يُقيم في أحد بيوت الله. فيقتضي ذلك مزيدا من الحيطة والتلفّت لحرمة تلك البيوت وطهارة سوحها.
بعض آخر بات يهرف في أصول الضيافة والكَرَم ومُقتضياتها. فالتندّر بالحاتميات شيء مطلوب ومؤكّد فهو من شيم العروبة وأصالتها. حالم بأنه يُقيم في أحد مضارب بني هاشم أو بني كندة أو الأزديين، يُشعل النار ويذبح الشياه.
بعض أخير صار يُعرّج على قِيم التحضّر في السلوك، وتغليب الحوار مع الخصوم، فلا نياشين للعرب حسب رأيه أن يظهروا وكأنهم أوباشا يُجيدون لغة السباب واللعن. إنه تطهّر وتبتّل يُشَكُّ أن زمانه ومكانه صحيح.
ففي حضرة هذا الرئيس (المُرحّل) لا تصحّ التقوى ولا الخُلُق الحسن ولا كرم الضيافة ولا قيم التحضّر. ليس هذا تهورٌ وانفلات وانحطاط؛ بل إنه اتّساق مع منطق السياسة في أقل تقدير. السياسة التي علّمت الجميع أنها نَجَسٌ وحيفٌ وخِسّة.
إن فوّرت الأحداث عربيا لأن يفعل ما فعله ذاك العراقي بحق بوش، فليس حلالا أن تُبنَى على ارتدادات الهزائم العربية. لأن الهزائم من نصيب الأنظمة الفاسدة القيّمة على أمور البشر عُنوة. أما هذا فهو نَفْحٌ شعبي قتلته هزائم الحكّام بلا توقّف.
أنظمة باتت تُنتج هزائمها مرتين، مرة بِفعل التاريخ الذي سجّل لها أحلك أوضاع ساهمت هي في صوغها وتكبّد نتائجها، ومرة من خلال عُقدها السياسية التي نمت وتعاظمت حتى أصبحت تحجب عنها استيعاب لغة غير اللغة التي اعتادت على ترتيلها منذ تكوين الدولة الافتراضية ونكساتها.
لقد بيّنت التجارب أنها ليست أنظمة شائخة فقط، بل إنها متقدمة في الجنون السياسي إلى حد فقدان الأمل في علاجها. لم يعد شيئا يربط بينها وبين ناسها الذين أصبحوا يُفكّرون قبلها وبعدها وبدونها سوى الذاكرة البائسة.
دول لم تتحمّل أن تسمع بهزيمة الجيش الصهيوني في لبنان حتى عندما قالت فينوغراد ذلك!. لأن الرابط بين الوطنية والنصر والهزيمة والعقل والعاطفة وقيمة الإنسان باتت مفصولة وغير متجانسة ضمن أصول المنطق.
ما يُريح النفس هو أن كل عربي سيختم حياته (كما ختمها آباؤه وأجداده) وهو نظيف اليد. فهو لم يُشرَك في بناء دولة أو مؤسسة قائمة بأصولها الصحيحة. وبالتالي فمن الظلم تحميله أفعالها
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2302 - الأربعاء 24 ديسمبر 2008م الموافق 25 ذي الحجة 1429هـ