العدد 2118 - الإثنين 23 يونيو 2008م الموافق 18 جمادى الآخرة 1429هـ

لبنان... والصراع بين النظام والدولة

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

كيف يمكن قراءة الاشتباكات الدموية التي تحصل في لبنان في مناطق عكار وطرابلس والبقاع الأوسط والجبل وبيروت وعلى حدود المخيمات الفلسطينية ومداخلها؟

هناك إجابات كثيرة ومختلفة تحاول حشر القراءات في إطارات أيديولوجية وانقسامات سياسية. وهناك من يرى في المسألة بداية فتنة طائفية - مذهبية تتعدى حدود التصنيفات الأيديولوجية والمعسكرات السياسية. وبين القراءة الأولى والثانية يمكن رؤية الكثير من التفصيلات والتعقيدات التي تحاول الربط بين التوجهات الأيديولوجية وآليات الواقع المنقسم ميدانيا على طوائف ومذاهب ومناطق. والانقسام الموروث يلعب دوره في ترتيب العلاقات ويوظفها في سياق لا يتناسب مع التحليلات الأيديولوجية التي تصنف البشر وفق معسكرات سياسية.

الانقسام في لبنان ليس سياسيا حتى لو اتخذت الاستقطابات تلك الجوانب الأيديولوجية. فهذا البلد الصغير تأسس على نظام طائفي ساهم في تربية أجيال تفتقر إلى روح الوطنية الجامعة ولا تحترم فكرة الدولة ولا تلتزم بشروط الهوية اللبنانية. حتى الأحزاب السياسية التي تأسست على مراحل فشلت في تجاوز هذه التقسيمات الواقعية ولم تنجح في كسر المعادلة الطائفية إلا في حدود نسبية.

حزب الكتائب تأسس في ثلاثينات القرن الماضي على الفكرة اللبنانية وتبنى موضوع الديمقراطية الاجتماعية انطلاقا من أيديولوجية عامة حاولت الجمع بين مختلف الطوائف. إلا أن الحزب انتهى في تجربته السياسية إلى قوة مارونية يجذب إلى صفوفه العائلات المسيحية المتضررة من هيمنة الإقطاعات السياسية في الأقضية المارونية. حزب النجادة برزت قوته في أربعينات القرن الماضي وتأسس على فكرة القومية العربية معتبرا العروبة تشكل هوية مشتركة لكل الطوائف اللبنانية، وانتهى النجادة في تجربته السياسية إلى قوة سنية تتحرك في إطار محدود في بعض المدن الساحلية. الحزب التقدمي الاشتراكي الذي تأسس في نهاية أربعينات القرن الماضي طرح شعارات إنسانية واجتماعية تخاطب كل الجماعات اللبنانية من دون تمييز طائفي أو مذهبي بين المناطق، وأنتهى الاشتراكي إلى حزب درزي يجمع الطائفة في مشروع أقلي لا يتجاوز حدود جبل لبنان إلا ضمن شريحة من المثقفين. حركة أمل التي أطلق شرارتها الأولى الأمام موسى الصدر في ستينات القرن الماضي بدأت تخاطب كل المحرومين من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق وانتهت منظمة شيعية محصورة في مناطق البقاع والجنوب.

حتى الأحزاب العلمانية واليسارية والاشتراكية والقومية والشيوعية سقطت أيديولوجيا ولم تنجح في كسر المعادلة الطائفية إلا في حدود معينة وباتت في وضع لا تحسد عليه لأنها لا تستطيع تأسيس جبهة منفصلة عن استقطابات طائفية وتجاذبات مذهبية. الأحزاب المعاصرة كانت ضحية نظام طائفي تأسست عليه الدولة وساهم في توليد أجيال قاصرة في وعيها الوطني وغير قادرة على فهم الفكرة اللبنانية إلا ضمن شروط محلية تتحكم في آلياتها السياسية مصالح ضيقة لا تتعدى حدود القضاء.

هذا القانون الطائفي - المذهبي لم يتغير حتى الآن على رغم التحولات السكانية (الديموغرافية) وما حصل في لبنان من مواجهات واضطرابات واحتلالات ومقاومات خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي وصولا إلى عدوان صيف 2006. فالمشكلة أحيانا خارج إرادة الأحزاب والهيئات والمنظمات وهي في أحيان أخرى تلعب دور القوة المستقلة القادرة على جذب التيارات الأيديولوجية إلى ساحة مغايرة للأفكار والبرامج التي تأسست عليها. وقوة المشكلة الطائفية تعود أساسا إلى تلك الانقسامات التي تولد طاقات تتكفل بكسر الاستقطابات السياسية وإعادة إنتاجها على صورة الواقع ومثاله.

انقسامات غير أيديولوجية

ما يحصل في لبنان الآن من مناوشات وتوترات واشتباكات متفرقة لا يمكن تحليله في إطار عقلاني يمكن التأسيس عليه بمجموعة قراءات تفسر الانقسام على قواعد أيديولوجية ومعسكرات سياسية. فالقراءة المذكورة ليست دقيقة وأحيانا يمكن اعتبارها مجرد محاولة للتحايل على الواقع وخطوة للتهرب من الاستحقاقات والمسئوليات.

الانقسام الدائر الآن في لبنان ليس بين فئة مع المقاومة وأخرى ضدها، أو فئة مع الدولة وأخرى ضدها. فهذا النوع من التشريح الأيديولوجي يحتاج إلى قراءة أكثر واقعية حتى لا ينزلق البلد إلى مواجهات هي أقرب إلى الفتنة وأبعد ما تكون عن المقاومة أو الدولة.

التقسيم السياسي في لبنان ليس أيديولوجيا ولا يخضع في مقاساته وموازينه إلى معادلات عقلانية ترتب القوى المتخاصمة أو المتنافسة على أساس «موالاة ومعارضة» أو «أكثرية وأقلية». فهذا النوع من الترتيب الأيديولوجي للمعادلة الداخلية ليس صحيحا في بلد يعتمد النظام الطائفي أساسا لفرز القوى وتوزيع الحقائب والمناصب والحصص. فالنظام يعطل إمكانات ذاك الفرز. والنظام ضد الدولة. واعتماد الدولة على النسبة الطائفية والمذهبية والمناطقية لإدارة شئون البلاد يلغي كل التوزيعات السياسية التي تقوم على الولاء والمعارضة أو الأكثرية والأقلية.

الطائفية والمذهبية والمناطقية في لبنان ليست المشكلة، فهذه الولاءات الضيقة موجودة في كل مكان وخصوصا في دول العالم الثالث. المشكلة هي أن الدولة تأسست على نظام يخضع لتلك الولاءات انطلاقا من معايير النسبية والحصص والتمثيل الشامل لكل المجموعات الأهلية. وبسبب هذا التقسيم بات من السذاجة توزيع القوى السياسية ضمن معسكرات الموالاة والمعارضة أو الأكثرية والأقلية. النظام يلغي مثل هذه الانقسامات وهو يشكل ذاك الحاجز الذي يعطل إمكانات الانشطار السياسي. ما يحصل في طرابلس بين حي جبل محسن وباب التبانة ليس بين معارضة وموالاة أو بين أنصار المقاومة وخصومها. وما حصل قبل أسبوع في البقاع الأوسط بين سعد نايل وتعلبايا والمحيط ليس مناوشة مسلحة بين الموالاة والمعارضة والأكثربة والأقلية. فهذا التحليل ليس واقعيا لأنه يعتمد قراءة أيديولوجية لاصلة لها بالانقسامات الطائفية والمذهبية والمناطقية التي تأسست عليها فكرة لبنانية غير قابلة للتطبيق.

في ظل وجود نظام طائفي يصعب على القوى السياسية التعامل مع الانقسامات في إطار عقلاني يوزع الناس على معسكرات أيديولوجية أو حزبية تعتمد برامج كما هو حال التصنيفات المتبعة في أوروبا والولايات المتحدة. فالطائفية المبرمجة في الدستور تعطل كل المفردات التي توزع القوى السياسية بين معارضة وموالاة أو أكثرية وأقلية. في لبنان فتنة مذهبية وطائفية ترتدي مجموعة شعارات لاصلة لها بمجرى الواقع.

هذه الفتنة المتنقلة التي انطلقت شرارتها في 7 مايو/ أيار الماضي أخذت تتدحرج صعودا من بيروت إلى الجبل ومن الجبل إلى البقاع الأوسط ومنه إلى الشمال في طرابلس وعكار. ويتطلب هذا الاندفاع للغرائز الطائفية التي أخذت تسيطر على مساحات سياسية خطرة في توجهاتها سلسلة تحركات عربية وإقليمية لمنع امتدادها وتحولها إلى نيران تشتعل في مختلف مناطق الكيان الصغير. التدخل العربي مسألة ضرورية لكون الحرائق لن تقتصر على مساحة محدودة وانما قد تمتد إقليميا في اعتبار أن المشهد العراقي شكل في السنوات الماضية ذاك النموذج القابل للتصدير.

حتى لا «يتعرقن» لبنان لابد من تدخل عربي يساعد البلد الصغير على تجاوز فتنة عابرة للحدود كذلك لا بد أن تعيد القوى السياسية حساباتها وتبدأ بقراءة الانقسام انطلاقا من رؤية واقعية لا تعطي ذاك الانتباه لتلك المعايير الأيديولوجية التي تتحايل على الحقائق.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2118 - الإثنين 23 يونيو 2008م الموافق 18 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً