الملاحظة الثانية: إن المغرب - كدولة - وكحكومة وكملك منذ استقلاله كان عضوا فاعلا في أنشطة جامعة الدول العربية وكان له دور ولم يصدر من القيادة المغربية ما يوحي بأنها تشارك السيد الفيلالي أقواله التي جاءت نتيجة الحكمة المتأخرة أو نتيجة خداعه لبلاده طوال توليه مناصبه العديدة. وهذا لا يعني أن المغرب يؤيد مئة في المئة قرارات الجامعة العربية كافة فهذا ليس من سلوك الدول في المنظمات الإقليمية والدولية، كما أن الدول الأخرى الأعضاء لها وجهات نظر مختلفة، وأنا شخصيا كتبت أثناء وجودي في موقعي كمندوب لمصر في جامعة الدول العربية كتابا العام 1995 بمناسبة الذكرى الخمسين لقيام الجامعة أنتقد ما فيها من أوجه قصور وفي تقديري أن هذه هي القناعة والشجاعة أن تنتقد أو تعلن رأيك وأنت في موقع المسئولية وليس بعد انتهاء المزايا والمكاسب والمغانم فإنه في هذه الحالة تصبح مثل المرتزقة الذين يستأجرون لأداء عمل ثم يهاجمون من استأجروه عندما يتخلون عنهم.
الملاحظة الثالثة: إن إشادة الفيلالي بمشروع الشرق الأوسط الكبير وشمال إفريقيا وآراء الرئيس بوش تفتقر للفهم الصحيح ولمعرفة ما حدث لهذا المشروع الذي وُلد ميتا منذ البداية وتخلى عنه أصحابه ولكن يبدو أن الفيلالي بحكم السن لا يقرأ ولا يسمع الأخبار أو أن شخصا آخر كتب له ما نشره ووضع اسمه عليه دون أن يدري.
الملاحظة الرابعة: إن ثمة تناقضات عدة في أقوال الفيلالي، فإذا كان العرب ليسوا أمة واحدة، وإذا كان العرب متناقضين بين الإسلام الوهابي والإسلام السني في شمال إفريقيا أو المغرب العربي والإسلام الشيعي وهكذا فكيف يقول في الوقت نفسه إن الشرق الأوسط الكبير أفضل، هل سيختفي الإسلام الوهابي والإسلام السني والإسلام الشيعي من هذا المشروع، ثم كيف يعرب عن أسفه لعدم قيام العرب بواجبهم عندما يقول إنه بعد الاستقلال - أي استقلال العرب بما في ذلك المغرب - كانت الشعوب تتوق نحو الاتحاد والتقدم الاقتصادي ولكن للأسف لم يحدث ذلك. أليس هذا دليلا على وجود إحساس عربي ومشاعر عربية وأن القادة أمثال الفيلالي هم الذين خذلوا الشعوب أو الشعب العربي ولم يحققوا له طموحاته؟
الملاحظة الخامسة: عن موقف الفيلالي من عبدالناصر هو موقف لا يتسم بالشجاعة الأدبية أو الأمانة السياسية، ومن يراجع أقوال الفيلالي في الاجتماعات العربية يجد العكس، كما أن الفيلالي كان يمكن أن يكون أمينا مع نفسه إذا قال هذه مواقفه، بدلا من أن يتخفى وراء الرئيس بورقيبة الذي كان شجاعا، وأعلن قناعاته في حينه، وليس بعد سنوات طويلة، ولو كان الفيلالي مقتنعا بآراء بورقيبة عن موقفه من عبدالناصر ومن فلسطين وعن قبول «إسرائيل» وهذا اختلاف في الرؤى والسياسات وربما المصالح.
الملاحظة السادسة: هل كان عبدالناصر شخصية تسعى للهيمنة المصرية على العالم العربي وأقام الوحدة المصرية السورية لمراقبة سورية؟ وهذا تساؤل كبير لا يتسع المجال للرد عليه، وإنما نقول إن عبدالناصر كان زعيما عربيا له طموحاته الكبيرة، وله آمال عريضة، وإن الجماهير العربية بادلته نوعا من الإعجاب والحب والإيمان بآرائه، وأسوق نموذجين فقط للدلالة على ذلك:
الأول: عندما حملت جماهير سورية سيارة عبدالناصر في مظاهراتها ولم يكن عبدالناصر يحكم سورية ولا مخابراته تسيطر عليها آنذاك، وأن سورية في ذلك الحين كانت تحت تهديد تركيا وحلف الأطلنطي وحلف بغداد، وأن شعبها وقيادتها البعثية والقومية آنذاك آمنت بمبدأ الوحدة وأصرت عليه، وأن عبدالناصر كان مترددا في قبول الوحدة الفورية، ولكن إزاء الإصرار الشعبي والقيادي السوري وافق عليها. والثاني: هو رد فعل للجماهير العربية من المغرب على ساحل الأطلسي إلى المشرق على شواطئ الخليج العربي، عند وفاة عبدالناصر الذي هزم في العام 1967 ووفاته في سبتمبر/ أيلول 1970، كانت الجماهير تهتف باسمه وتردد شعاراته، بل عندما قاد السيد حسن نصر الله معركة الـ 33 يوما ضد «إسرائيل» شبهه البعض بجمال عبدالناصر، هذا رغم مضي نحو أربعين عاما على وفاة عبدالناصر، أليس هذا دليلا على الزعامة الكارزماتية وليس على النفاق السياسي لمن يكتشف الحكمة بعد أن زالت عنه المناصب والمكاسب.
والتساؤل الثاني حول سعي عبدالناصر للهيمنة العربية، وهنا نقول إن الوحدة الأوروبية التي عبّر عنها مفكرون وسياسيون من فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية وكذلك الوحدة الأميركية التي قادها جورج واشنطن ثم عززها إبراهام لنكولن، كلها ظهرت في ظل حروب أهلية، وتنازلات من الوحدات السياسية لهدف أكثر بعدا، ولكن مشكلة العرب هي في سياسيين وقيادات مثل الفيلالي يظهرون غير ما يبطنون، ويقولون ما لا يفعلون، والشعوب العربية المغلوبة على أمرها تعاني. ولحسن الحظ لم يكن عبدالناصر من هؤلاء بل كان شجاعا وصاحب رؤية وأيضا صاحب أخطاء عظيمة، إنه مثل نابليون أو يوليوس قيصر أو ماوتسي تونغ له إنجازات ضخمة وله أخطاء جسام، ولكنه لم يكن مخادعا ولا منافقا ولا انتهازيا، لقد دافع عن سورية، كما دافع عن تونس عندما هاجمت فرنسا مدينة بنزرت، كما دافع عن فلسطين وسعى لرأب الصدع في آخر قمة عربية في سبتمبر 1970 إزاء الصراع الدامي بين الفلسطينيين والملك حسين في «أيلول» المشهور، ودفع عبدالناصر حياته ثمنا لذلك من كثرة الإجهاد والإعياء. لقد ذهب لليمن دفاعا عن ثورته بناء على طلب اليمن وإيمانا بمبدأ الوحدة والتقدم والتحرر، وارتكب عبدالناصر أخطاء ولكن هل من قائد عظيم عبر التاريخ ليست له أخطاء؟
أما ضعف الجامعة لكون مقرها القاهرة وأمينها مصري، فهو اتهام لا يستحق الرد عليه؛ لأن ذلك يكشف مكنونات وعقدا نفسية لا تستحق أن يلتفت إليها أي باحث أو ذو عقل رشيد.
إن الباحث والمفكر السياسي والعالم مطلوب منه أن يكون موضوعيا في تحليله علميا في آرائه شجاعا في مواقفه في اللحظة المناسبة ولكن ليس إدعاء البطولة والحكمة بعد فوات الأوان
إقرأ أيضا لـ "محمد نعمان جلال"العدد 2302 - الأربعاء 24 ديسمبر 2008م الموافق 25 ذي الحجة 1429هـ