العدد 2117 - الأحد 22 يونيو 2008م الموافق 17 جمادى الآخرة 1429هـ

ساركوزي... الأطلسي والأوروبي والمتوسطي

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

بدأ أمس الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي زيارته لـ «إسرائيل» والأراضي الفلسطينية المحتلّة حاملا معه رزمة من الأوراق والملفات. فالزيارة مهمّة؛ لأنّها خطوة تستهدف إعادة التوازن لعلاقات فرنسا مع دول شرق البحر المتوسط في إطار سياسة شهدت خلال السنة الماضية إشارات تخالف النهْج الذي اتبعه الرئيس السابق جاك شيراك.

نهْج ساركوزي يختلف في أولوياته حتى لو حافظ على تلك الثوابت الاستراتيجية التي تعتمدها الدولة الفرنسية في علاقاتها الدولية والأوروبية والمتوسطية والشرق الأوسطية. والاختلاف في برنامج الأولويات لا يلغي الثوابت الاستراتيجية ولكنه يقدم ملفات ويؤخر غيرها وفق رؤية لا تتوافق بالضرورة مع نهْج سلفه.

هذا الاختلاف في الأولويات ظهر بوضوح في أكثر من مكان وعلى مستويات متنوعة. ساركوزي مثلا أظهر ليونة في التعامل السياسي - الثقافي مع إدارة جورج بوش ولكنه واصل سياسة التنافس الاقتصادي ومزاحمة الولايات المتحدة في توقيع العقود واستدراج الاستثمارات مع الكثير من دول المتوسط وإفريقيا وآسيا. وأيضا أظهر ساركوزي ليونة في التعامل مع الملف الأطلسي (دول الناتو) وألغى فكرة المقاطعة باتجاه تجسير الاتصالات المقطوعة مع مظلة عسكرية تهيمن على إدارتها الولايات المتحدة. وهذا التوجّه الأطلسي لم يقلل من رغبة فرنسية في إعادة إحياء مشروع متوسطي يطوّر تلك العلاقات بين أوروبا وبلدان البحر المتوسط.

ساركوزي منذ وصوله إلى قصر الإليزيه يحاول قدر الإمكان الجمْع بين ملفات ثلاثة تشكّل مظلة دولية للسياسات القارية والإقليمية لفرنسا. والملفات الثلاثة التي تمزج بين الأطلسية والأوروبية والمتوسطية تفسّر إلى حد معيّن توجهات ساركوزي للانفتاح على دول متخالفة في حوض البحر المتوسط. فهو مثلا قام بزيارات مكوكية إلى ليبيا وتونس والجزائر والمغرب محاولا استعادة دور تآكل زمنيا بسبب المنافسة الأميركية. والآنَ يُحاول الانفتاح في وقت واحد على سورية و«إسرائيل» مُستفيدا من الإعلان عن التفاوض بين دمشق وتل أبيب عبر الوسيط التركي.

ساركوزي يرى أنّ هناك متغيرات دولية مقبلة على المنطقة ويرجّح أنْ تشهد الولايات المتحدة حالات من الانكفاء الداخلي ونمو سياسة انعزالية ترفض التدخل المباشر في شئون العالم و«الشرق الأوسط». واحتمال دخول أميركا في طور من العزلة المؤقتة عقابا لإدارة بوش الهجومية (التقويضية) يعطي فسحة زمنية لموقع فرنسا الدولي ويعزز دورها في محيطها المتوسطي بدءا من المغرب العربي وصولا إلى المشرق العربي.

زيارة ساركوزي لتل أبيب بمناسبة الذكرى الستين لقيام دولة «إسرائيل» ترافقت مع ثلاثة منعطفات. الأول الإعلان عن تقدم إيجابي في المفاوضات السورية - الإسرائيلية. الثاني الإعلان عن البدء في تطبيق اتفاق التهدئة في قطاع غزّة بين حماس وحكومة إيهود أولمرت. الثالث إعلان دمشق عن استعدادها للاعتراف بسيادة لبنان فور تأليف الحكومة وفق ما توصّل إليه «اتفاق الدوحة».

هذه التحوّلات التي طرأت على منطقة شرق المتوسط في الأسابيع الأخيرة أعطت الضوء الأخضر للتحرك الفرنسي على أكثر من مسار إقليمي. فالرئيس ساركوزي التقط بسرعة ذبذبات تلك الإشارات وأرسل من قصر الإليزيه وفدا إلى دمشق للتفاوض معها بشأن الملفات اللبنانية والفلسطينية وربما العراقية. وأرفق فتح نافذة التفاوض بتوجيه دعوة رسمية للرئيس السوري لزيارة باريس بدعوى المشاركة في مؤتمر الحوار الأوروبي -المتوسطي الذي يبدأ أعماله في الشهر المقبل في ظل رئاسة فرنسا للاتحاد الأوروبي.

جغرافية المتوسط

ساركوزي يعتبر أنّ تقارب فرنسا مع سورية خطوة لابدّ منها؛ لأنّها تحقق مجموعة أهداف دفعة واحدة. فالتقارب مع دمشق الذي فرضته الجغرافيا (البحر المتوسط) يمكن أنْ يستثمر سياسيا للتفاهم على مجموعة نقاط تتصل بتحصين سيادة لبنان وضمان أمن «إسرائيل» وضبط توازن المصالح تحت سقف منظومة متوسطية - أوروبية تقودها فرنسا في لحظة قد تشهد فترة غياب مؤقت للولايات المتحدة عن المسرح الدولي.

ساركوزي لا يرى أنّ التقارب مع سورية سيكون على حساب لبنان. كذلك لا يرى أنّ التقارب مع «إسرائيل» سيكون على حساب الشعب الفلسطيني. فهو يقرأ المسألة من وجهة نظر تطمح إلى تعديل برنامج أولويات اعتمده سلفه شيراك. وترتيب الأولويات يقتضي الانفتاح على دمشق لضمان استقرار لبنان (دولة ومقاومة) وكذلك يقتضي الانفتاح على تل أبيب لضمان استقرار تفاهمات توصلت إليها السلطة الفلسطينية مع «إسرائيل» في فترات سابقة وحالية.

هناك إذا رزمة من الأوراق والملفات حملها معه ساركوزي إلى تل أبيب والأراضي المحتلة. فهناك أوّلا تأكيد الدعوة لحضور أيهود أولمرت إلى باريس والجلوس إلى طاولة واحدة مع الرئيس السوري خلال حوارات المؤتمر الأوروبي - المتوسطي. وهناك ثانيا تأكيد التزام فرنسا بأمن «إسرائيل» وضمان حدودها من الاختراقات وهذا لا يمكن توفيره من دون تفاهمات سياسية مع دمشق والمجموعات المسلّحة التي تتحالف معها. وهناك ثالثا ضبط الاستقرار من خلال انتزاع اعترافات إسرائيلية تشير إلى استعداد لوقف الزحف الاستيطاني وتجميد بناء الوحدات السكينة وربما تفكيك جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية.

هذه الرزمة من الأوراق والملفات تحتاج إلى قراءة ثانية للتأكّد من إمكانات نجاحها. فالرزمة تعتمد على سياسات مُتعارضة تحاول الجمع بين أوروبا والمتوسط للدخول إلى المشرق العربي ومنه إلى قضايا «الشرق الأوسط» وهذا يتطلب عبور الكثير من الجسور وتخطي العقبات التي تحول أو تمنع ساركوزي من التوصل إليها. مثلا فرضية غياب الولايات المتحدة المؤقت ودخولها في فترة عزلة دولية مسألة واردة ولكنها ليست مؤكّدة في اعتبار أنّ الاستراتيجية الأميركية ترتكز على ثوابت (أمن إسرائيل وأمن النفط) لا تتخلى عنها في «الشرق الأوسط» وهي تحتل أولوية في برنامجها الدولي بغض النظر عن هوية الرئيس الأميركي المقبل. كذلك سياسة الجمع بين مظلات الأطلسي وأوروبا والمتوسط يرجّح ألا تستمر من دون مطبّات في اعتبار أنّ مشروع التقارب يتجاوز كثيرا توجيه دعوات لرؤساء وزعماء دول تقع جغرافيا على حوض البحر المتوسط. فالجغرافيا تلعب دورها ولكنها غير قادرة على تأسيس سياسة تقلب المعادلات الاستراتيجية في المشرق العربي و«الشرق الأوسط». الانفتاح على سورية مثلا يمكن أنْ يحسّن شروط التفاهم بين باريس ودمشق على قضايا اقتصادية واستثمارية محددة ولكن الانفتاح لا يضمن بالضرورة «أمن إسرائيل» ويضبط الحدود من اختراقات محتملة يمكن أنْ يلجأ إليها حزب الله أو حركة «حماس». الجانب الاقتصادي يمكن أنْ ينفتح في إطار جغرافيا المتوسط ولكن الجانب السياسي يصعب ضبطه إلاّ بعد تعديل قواعد اللعبة الإقليمية وما تشترطه من تحوّلات ميدانية تتجاوز إمكانات دمشق وحدود سورية. فالأمن الإقليمي يخضع لمعادلة تعيد ترسيم حدود لعبة الاشتباك وهذا يتطلب خطوات مختلفة تتناول ملفات الجولان ولبنان وفلسطين وما تقتضيه الملفات من تسويات لا تستطيع فرنسا الانفراد بحلها من دون مشاركة دولية وإقليمية وعربية.

ملفات ساركوزي وأوراقه كثيرة وأحيانا متعارضة في توجهاتها. فهي من جهة تحاول الإشارة إلى وجود قوّة فرنسية قادرة على تحقيق اختراقات في ميادين المتوسط و«الشرق الأوسط» ومن جهة أخرى تحاول التأكيد على موقع جغرافي - تاريخي أخذ يتآكل دوره بسبب المنافسة الأميركية في منطقة تعتبر تقليديا من مجالات فرنسا الحيوية. وضمن هذا الإطار يمكن فهْم سياسة ساركوزي التي تتراوح بين رغبة تطمح إلى تحسين مواقع التفاوض وطموح يحتاج إلى سياسة واقعية تتجاوز حدود الرغبة.

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2117 - الأحد 22 يونيو 2008م الموافق 17 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً