كان المسير مساء يوم الجمعة أو ليلة السبت إلى قرية المعامير أو بالأحرى إلى أرض الموت تلبية لدعوة كريمة من الأخ العزيز محمد جواد حسين الابن البار لهذه القرية؛ حيث أقيمت على أنقاض ساحل القرية احتفالية رائعة ومميزة تكللت بذاك الإرهاق المتألق لأخونا العزيز الذي تحمل جميع تلك الأكلاف التنظيمية والتنسيقية المرهقة لهذه الفعالية التي رعتها صحيفة «الوسط»، وإن بدت أحمال تلك الفعالية أحمالا متواضعة جدا بالمقارنة بأحمال قضية أبناء المعامير أو أرض الموت وهم يتشبثون بإرادة الحياة والبقاء وحب المكان ولو أصبح مميتا ومقيتا وإن طال مع ذلك عسف الزمان وبلواه!
ما كان يشغلني حينها وما قد طرحته على صاحب الدعوة هو عن مكان الفعالية وكيفية الوصول إليها، فطمأنني بأن هذا أمر لا يقلق «استرشد فقط بأضواء الليزر فوق أنقاض الساحل البحري ولن تضيع»، فظلت أضواء الليزر تلك عالقة في ذاكرتي وفي كل عناصر أحاسيسي ومدركاتي على أمل الوصول بأي طريقة إلى مكان تلك الفعالية التي حفزني وشوقني لها صاحب الدعوة كثيرا، فما إن انعطفت عن زحام الشارع العام ولهاثه نحو مدخل المعامير - أرض الموت حتى طفر بداخل سريرتي بشكل تلقائي السؤال «أين هو الليزر؟ أين هو الليزر الذي يشق كالسيف المتوهج كبد السماء المدلهمة؟»!
في البداية لم أجد هذا الليزر فقررت على الفور المحاولة والمغامرة بالتوجه شطر أنقاض ساحل المعامير أو صوب جثة ساحل أرض الموت، وإن كنت أعاني قلقا مزمنا من السياقة وسط الدواعيس والطرقات الصامتة والضيقة وخصوصا أن البنية التحتية متردية في هذه القرية والشوارع إلى حد كبير كما لو أنها لم تبلغ للأسف نشوة القار وطمأنينة الإسفلت ومنتهى «الزفت». خطر في بالي وأنا أنقب بين الطرقات وألمح في السماء الخطوط العريضة لليزر الوهاج أن أسأل أيا كان من العابرين والمارين عن الطريق إلى هذه الفعالية من دون الاتصال بأصحاب الدعوة وإزعاجهم وهم يتوكأون بأعصابهم وتوتراتهم المباركة قبل انطلاق الاحتفال.
وجدت في آخر الممر شابا أو ربما كهلا جالسا بملابس رثة وبنية نحيلة على إحدى العتبات المهشمة وكأنما هو يدخن سيجارة شهية وينفث دخانا لا يكاد ينتهي ولو أصبح سحابا. اتجهت ناحيته وسألته عن مكان الفعالية فلم يرد عليّ واستمر يدخن وينفث بتلذذ ما بدا كما لو أنه أكثر من سيجارة أو سيجارتين من دون أن يرفع ناظريه ويستجيب. ولكن المعضلة أن هذا الشخص لم يكن سوى متظاهر بالتدخين فلا دخان ولا سجائر ولا أعقاب سجائر ولا أعقاب أعمار وحيوات، وإنما هو محض هواء المعامير المسموم يدخل في فمه ويخرج من منخري هذا الرجل البائس الذي إما أن يكون معوقا وإما مختلا وإما مكتئبا ويائسا لفقد حبيب وهو لذلك يتظاهر بالتدخين!
تعديت بالسيارة هذا الرجل إلى «داعوس» آخر وكان حينها هنالك رجل أكثر بؤسا من سابقه وهو يعرج في الطريق ويغني ويتقيأ بصوت مبحوح لواعج اشتياقاته المنسية، وكان في نهاية «الداعوس» رجل آخر شريك في البؤس لهذا الرجل يتوسل المارة لسبب غير معلوم فهو يرفض «الأنواط» ولا يقبل إلا بالقطع المعدنية اللامعة، بل يرفض كل شيء ويطلب الصفح والإنصاف والسعي إلى تحقيق العدالة «يا إلهي! أليس من واعين أو عقلاء لنستدل بهم؟ إن شاء الله في الطرق القادمة»!
ومن بعد تجاوز هذا «الداعوس» في أرض الموت ومحاولة أخرى للاسترشاد بنصال الليزر المداعبة لحلكة السماء دون أن تكلمها وتدميها، كان هنالك شبه الهدوء والصمت الذي يعم جميع الأماكن. «الدكاكين» و «المطاعم» و «المآتم» وكان هنالك في آخر الطريق بضعة أطفال صغار جدا يركضون لعبا وعبثا بريئا خلف أجمة ظلال متكاثف ومتسارع «إنهم يركضون وراء أهلهم، ربما هم متجهون صوب مكان الاحتفال، سأتبعهم إذا وأرجو ألا يخيب أملي». تبعتهم فعلا ولم يخب أملي فها هما سيفا الليزر، وها هو صوت شجي يصدح شطر أغنية «ها هي المعامير مدمرة تدميرا»!
وقد وصلنا واستقبلنا منظمو الحفل بحفاوة وجلسنا بانتظار بدء الفعالية وكان من بيننا أحد الإخوة من المعامير يتحدث عن قصة ابنه المرحوم الذي رحل وهو في الرابعة عشرة من عمره بأعراض مرضية غريبة ألمت به وسبق أن سلّط أحد البرامج الصحية المشهورة التي تبث على الفضائية البحرينية الأضواء بشكل خاص على هذه الحالة، وأفادت الطبيبة مقدمة البرنامج بندرة هذه الحالة عالميا وغرابتها ورأت أنها لربما تحصل بسبب استنشاق الغاز السام، وتمنى أخونا لو أن بعض المسئولين الصامتين وبعض الساكتين عن الجرائم الإبادية المرتكبة ضد أبناء المعامير يعيدون مشاهدة تلك الحلقة من هذا البرنامج مجددا ليستوثقوا الحقيقة مرة أخرى بدلا من مماطلة وتكذيب وتجاهل متواطئ لا يزيد الوضع إلا سوءا!
من بين فِقرات الفعالية كان هنالك موال بحري أدّاه بعض الفتية وإن بدا وتميز لدي هذا الموال من العديد من المواويل البحرية الدارجة بكونه أشبه بنشيد أو قداس جنائزي (Requiem) لروح البحر العظيم التي نزلت إلى منازل الشفقة والانتكاس والتضحية التي لابد من أن تنالها رحمة الله بعد ما أرهب هذا البحر بأهواله وشدائده الزرقاء أجدادنا من الغواصين والصيادين الذين استجاروا برحمة الله تعالى وعونه في مواويلهم تلك. فأهل البحرين الآن دفعتهم الوحشة وأقصتهم الضرورة إلى استحداث مواويلَ تترحم على البحر وعلى أهالي البحرين فالأول شريك الأخير في التضحية ولم يعد جبارا يحسب له ألف حساب!
وكان هنالك فيلم قصير وجميل تم تصويره في منزل عائلة من المعامير فقدت عائلها وثلاثة من أبنائها بالأمراض السرطانية في غضون فترة زمنية قصيرة وقد سبق أن تناولتها الصحف. هذا الفيلم يجسد بإبداع رمزي جميل الفارق الشاسع بين حالة القرية وأهاليها في الماضي ووضعها الحالي وكيف ساهم النفط في تغيير معيشة أهل القرية وأثر سلبا على صحتهم وعافيتهم، وبصراحة كنت قلقا كثيرا ومتأثرا ومتشائما حيال من شارك في تمثيل هذا الفيلم وهو يغترف ويذرع ويسبح ويستنشق موفور السموم ليشرح لنا قضيته وحقه في الحياة!
وفِقرة جميلة أخرى جسدتها على خشبة المسرح براءة أطفال المعامير التي لم تفلح في جذب العصافير إلى أرض المعامير التي استحالت أرضا للموت وفي النهاية فتكت بالبراءة على مرأى الجميع ومسمعهم!
وما إن حانت لحظة الفراق وانتهى الحفل حتى كان هنالك الوداع والمصافحة الحارة لمنظمي الحفل وأهالي المعامير أشقاء وأصدقاء وإخوة أعزاء، فنحن لا ندري إن كنا قد غادرنا أرض الموت هذه سنلتقي أحباءنا فيها في المرات القادمة، وكيف ستكون أحوالهم لو التقيناهم في المرات القادمة!
هاهي العائلات والجماعات تغادر ساحة الحفل وأنقاض الساحل نحو بيوتها، وتسير على طرقات القدر المتقعرة، وربما تسارع مع الأطفال لتغلق أبواب بيوتها ونوافذها وتخبئ أعباء حكاياتها، لتبقى السموم في الخارج تجوس بين البيوت و «الدواعيس» وعلى السواحل كالكلاب الضالة التي لن تتردد وسط تفويض ذاك الصمت الرهيب عن اقتحام تلك البيوت وربما نهش من تبقى بها من أحياء!
رويدا ورويدا تغادر السيارة أرض الموت وتخرج منها نحو أقرب منعطف وتقاطع لتشاهد من بعيد مرأى هذه القرية الوادعة ببيوتها الواجمة وقبابها اللامعة أو الدامعة وأنوارها المتخافتة كما لو أنها امرأة تدثرت بعباءة الليل المظلم وحاولت أن تنكفئ على أبنائها وعلى أحزانها المديدة لتحميهم عسف المنشآت الصناعية التي تحاصرها وبطشها وتجبرها وعدوانها. بدت لي امرأة تخبئ وجهها الحزين بعيدا عن عابري الشارع بعد ما تم تقطيع شفتيها الساحلية وانتزاع فلذات كبدها فلذة فلذة!
الآن أتذكر ذلك «الإيميل» (البريد الإلكتروني) الذي أرسله إليّ أحد الأصدقاء الأعزاء عن استخدام تقنيات الأمطار الصناعية في إمارة دبي لتنقية الجو من الملوثات، أفلا يحتاج أهل المعامير وأهل البحرين لذلك المطر وتقنية التنقية تلك حتى لا يحترقوا ويتلظوا مسفوعين بالشمس والسرطان؟ ألا يحتاجون إلى لجنة تحقيق مستقلة على أمل ألا نكون على موعد مع «أحزمة سرطان» كما هو الحال في الصين حسب ما ذكرت صحيفة «نيويورك تايمز»؟
إن تجربة المعامير قابلة للانتشار والتصدير الطبيعي طالما جرفها طوفان النسيان الهادر، ونحن الآن بتنا عاصمة لمواجهة الكوارث العالمية!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2117 - الأحد 22 يونيو 2008م الموافق 17 جمادى الآخرة 1429هـ