تتحدث منظمات حقوق الإنسان ومنظمة العفو الدولية عن الإدارة الأميركية باعتبارها السجّان الأول في العالم، فهي التي تنظر إلى العالم كله كمنطقة نفوذ لها، فلا تتورّع عن اختطاف المعارضين لسياستها لزجّهم في السجون التي أنشأتها في قواعدها العسكرية في العالم، كما تسجن معارضيها في سفنها العائمة في البحار والمحيطات...
ومع ذلك، فإن وزيرة الخارجية الأميركية تتحدث عن أن قلب أميركا ينفطر لأسر بضعة جنود إسرائيليين، من دون أن يتحرك فيها أي نبض أمام أحد عشر ألف أسير فلسطيني في سجون «إسرائيل»، يتعرضون لأبشع عمليات التعذيب الوحشي والنفسي والجسدي، ربما لأن السجّان الإسرائيلي لا يختلف كثيرا عن السجّان الأميركي، الذي قتل مئات المعتقلين خنقا في أفغانستان، واستخدم أكثر الأساليب وحشية ضد المعتقلين في «غوانتنامو» و «أبوغريب» وغيرهما.
وأميركا المتوحشة في عمليات القتل لا تختلف عن ربيبتها «إسرائيل»، فهي تفعل في هذه الأيام في الريف الأفغاني من إبادة لعائلات آمنة بأكملها، تماما كما تفعله «إسرائيل» في غزة، فلا يختلف مشهد الطفلة الناجية من عائلة أفغانية قتلت القوات الأميركية أهلها وإخوتها في محافظة «بكتيا» الأفغانية، عن الطفلة الفلسطينية التي قتلت «إسرائيل» كل أفراد عائلتها على شاطئ غزة.
إن أميركا الإسرائيلية و «إسرائيل» الأميركية وجهان لعملة واحدة، فها هي الطائرات الأميركية تغير على الجيش الباكستاني لإبلاغه رسالة جديدة مفادها أن عليه ألا يتجاوز الدور الذي رسمته الإدارة الأميركية فيما يسمى «الحرب على الإرهاب»، تماما كما تغير طائرات العدو على أحياء غزة الآمنة، في الوقت الذي أعلن فيه عما يسمى مساعي التهدئة التي قامت بها السلطات المصرية، ومحاولات التبرير الأميركية هناك كمحاولات التبرير الإسرائيلية هنا، وكلها تنطلق تحت عناوين الدفاع عن النفس.
متى يتحرّك العرب لإنقاذ فلسطين؟
ولا ندري - بعد ذلك كله - كيف يتحدث المتحدثون عن سلام يمكن أن يقدمه القتلة للضحايا في طول المنطقة العربية والإسلامية وعرضها؟ وكيف يستمع العرب والفلسطينيون إلى نصائح الموفدين الغربيين، وآخرهم رئيس الوزراء البريطاني السابق، طوني بلير، موفد اللجنة الدولية الرباعية لخريطة الطريق؟
إننا ندعو العرب، ولاسيما المسئولين منهم، إلى ألا يستجيبوا للضغوط الأميركية في التطبيع مع العدو... وندعو مصر على وجه التحديد لأن ترتفع إلى مستوى المسئولية العربية والإسلامية، فلا تترك الشعب الفلسطيني وحيدا بفعل الحصار وعمليات القتل وكل محاولات تركيع الفلسطينيين وإخضاعهم.
ولسنا ندري ما الذي ينبغي أن يحصل للفلسطينيّين حتّى يشعر المسئولون العرب بالحاجة إلى عقد اجتماع على مستوى القمّة العربيّة، والعمل للضغط على «إسرائيل» بشتّى الوسائل وهي كثيرة، ولاسيّما لدى الدول المعترفة بالعدوّ أو المرتبطة به اقتصاديّا، ليثبتوا للعالم أنهم أمة تحترم نفسها وتتحمّل مسئولية شعوبها ليحترمهم التاريخ.
العالم الإسلامي: حمى الحروب الاستكبارية
وأمّا سائر العالم الإسلامي، فنجد أنّ الحرب الإستكبارية المتنقّلة تعصف به من بلدٍ إلى بلد. ففي العراق يسقط المدنيون الأبرياء بفعل التكفيريّين الوحوش من جهة، وبفعل عشوائيّة جنود الاحتلال من جهة أخرى، ويُراد من خلال ذلك ألا يستقر العراق، كمبرّر لبقاء طويل للمحتلّ بحجّة حفظ الأمن، ويتحرّك الاحتلال ليفرض على الحكومة العراقيّة اتّفاقيّة أمنيّة تُبقي الاحتلال طويلا، ليعبث بأمن هذا البلد ومستقبله، إضافة إلى تمكينه من الانطلاق منه لتهديد المنطقة والعبث بأوضاعها، مما لا يقبل به أيّ شعب حرّ مستقل، مهما قُدّم من تبريرات؛ وقد جرّب الشعب العراقي مثل هذه الاتفاقية عند الاحتلال البريطاني الذي استخدمها لفرض سيطرته على سيادة العراق السياسية ومقدّراته الاقتصادية.
وفي أفغانستان، لايزال حلف الناتو - بقيادة الولايات المتحدة الأميركية - يمارس عملية القتل والاجتياح والاعتقال، في معركة ينطلق فيها الأفغانيون لمواجهته بالوسائل العادية التي يملكونها دفاعا عن حريتهم الوطنية والإسلامية.
وتمتد المسألة إلى السودان الذي ينتقل من مشكلة أمنية إلى مشكلة أمنية أخرى، لأنه لم يخضع لأميركا في تغيير نظامه، وفي رهن ثرواته لشركاتها، وفي خضوعه للصلح مع «إسرائيل». وهكذا نصل إلى الصومال الذي يعيش الحرب الداخلية التي تستعين فيها حكومته بقوة أجنبية، فيعيش هذا الشعب القتل اليومي الجماعي الوحشي الذي يدمّر هذا البلد بثرواته ومقدّراته.
فإذا انتقلنا إلى الجزائر، وجدنا كيف تجدّدت المجازر التي يقوم بها المتطرفون في قتل الناس من دون تمييز، إضافة إلى الفتنة التي تثيرها حركة تنصير المسلمين وإخراجهم من دينهم، في عمليّة استغلال لأوضاعهم السيّئة في فقرهم وحرمانهم وفي جميع أوضاعهم الاجتماعية الصعبة.
إنّ على المسلمين وأمام هذه الصورة القاتمة أن يكون لهم الوعي الإسلامي الذي يتحوّلون به إلى أمة موحّدة تدافع عن وجودها وثرواتها ومقدّراتها ومواقعها الإستراتيجية، لتأخذ مكانها الطبيعي في العالم.
لبنان: الطائفية تأكل التوافقية
فهل يرحم الشعب نفسه؟
أما في لبنان، فلايزال السياسيون مشغولين بالحصص الوزارية التي يأمل الكثيرون منهم أن تمنحهم مواقع متقدّمة على مستوى المعركة الانتخابية القادمة، أو على مستوى الامتداد في زعاماتهم الطائفية والمذهبية، بينما تُحرَّك في هذا الوقت المشكلات الأمنيّة التي قد يراد من خلالها خلط الأوراق لتحقيق بعض المكاسب السياسية، مع ازدياد منسوب الخطاب المذهبي الذي لا يعرف مثيروه ماذا يفعلون، وبأيّ نارٍ يعبثون.
ويتفاقم الوضع عندما تضعف ثقة الناس بالقوى الأمنيّة؛ لأنّها لا تقمع المجرمين انتظارا للأمن الوفاقي، وهذا يدلّ على مدى الانحدار الذي يُمكن أن يوصل إليه النظام الطائفيّ في لبنان، هذا النظام الذي لا يستطيع أن يبني دولة، ولاسيّما مع طبقة سياسيّة لا همّ لكثير منها إلا المصالح الذاتيّة، ولا عين لها إلا على المناصب الفارغة من أيّ مضمون مؤسّسي. وبات على الشعب أن يخدم أولئك بدلا من أن يكونوا خُدّامه، ممّن لا يزيدونه إلا فقرا ودَيْنا وارتهانا لكلّ اللاعبين الكبار.
أما من أحد يَرحمُ هذا الشعب؟!
والسؤال: هل يَرحمُ الشعب نفسه، فيرفض كلّ هذا الواقع، ويُدرك أكثر موقعه من عمليّة التغيير، وهو الشعبُ القويّ الذي باستطاعته أن يصنع المعجزات، ويعمل الكثيرون على تقزيمه، وإفقاده الثقة بنفسه؟
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2114 - الخميس 19 يونيو 2008م الموافق 14 جمادى الآخرة 1429هـ