حاز كتاب «الرؤية الفجائعية: الأدب العربي في نهاية القرن وبداية الألفية الثالثة» للناقد الأدبي المغربي محمد معتصم، في طبعته الصادرة عن «دار أزمنة» بالأردن سنة 2004، جائزة المغرب للكتاب في صنف الدراسات الفنية والأدبية في دورة 2005، اعتبارا لجدة الموضوع من جهة ولجدية اشتغال الباحث عليه من جهة أخرى، ومن جهة ثالثة لراهنية القضايا التي أثارها وخاصة ما يتعلق منها بأحلام المثقفين العرب في بناء مجتمعات حديثة تسودها قيم التسامح والمساواة مع التشبث بتلك القيم التي تشكل هوية الإنسان العربي، وهو تشبث مشوب بالقلق، والخوف من الذوبان في إعصار التحول الذي يشهده العالم المعاصر.
في العرض الذي نقدمه هنا سنحاول الإحاطة ما أمكن بما يثيره هذا الكتاب الذي يشكل إضافة نوعية للمكتبة النقدية العربية.
هل جسد الأدب العربي خلال القرن الماضي الصدمات التي توالت على العالم العربي؟ وهل استطاع أن يفي بعكسه لواقع مرير مطبوع بشتى أنواع المآسي وألوان الخيبات؟ لقد تعاقبت الحروب والهزائم؟ وارتفعت الأصوات بشعار تلو شعار تعلن مطالب وتندد بهزائم وخيانات، لكنها عادة ما تنتهي إلى الخرس دون أن يحدث أي شيء. المجتمعات العربية تتكيف مع واقعها الجديد وتخلد إلى نفسها في انتظار خيبة جديدة. وانعكس هذا الوضع على الكثير من مجالات الحياة في البلاد العربية: ما من مواقف صلبة على الأرض، ثمة فقط مواقف لأناس يقيمون في الخطاب لا يغادرونه إلى الممارسة، ولذلك لا أثر لهم في حياة الناس، وفي همومهم وفي مآسيهم الحقيقية، ولعل لهذا السبب، صار المثقفون والمبدعون أكثر عزلة وأقل حضورا في أذهان الناس ووجدانهم. لكن مع ذلك فإذا توخينا بعض الموضوعية فسنتساءل عما هو مطلوب من هؤلاء المثقفين الكتاب والمبدعين. ما هو دورهم بالتحديد في مجتمعات يرين عليها كل ما ذكرناه من الفواجع والمآسي والهزائم، إنه سؤال، كما نتصوره، مؤلم جدا، بيد أنه أساسي مادام يشكل طريقا إلى البحث في وعن دور الأدب والإبداع الأدبي تحديدا في الحياة، وخاصة مع دخول العالم إلى عصر آخر يشهد اجتياحا معلوماتيا لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية. عصر يبدو شرها ومستعدا لابتلاعِ القيم التي فَضلتْ عن صراعات التطور في العالم بما في ذلك الأدب. فأي دور إذن يمكن أن يلعبه هذا الأخير في قلب هذه الانهيارات التي أسفرت عنها صيرورة التقدم. الانهيارات التي لم تترك من الكائن ذي الأحاسيس غير بقايا وشظايا. وهل يمكن أن يكون الأدب وسيلة فعالة تساعد هذا الكائن على المقاومة وعلى البقاء؟ ينقلنا الناقد الأدبي المغربي محمد معتصم إلى عمق هذه الأسئلة المؤلمة. الأسئلة التي قد يطرحها المشتغل بالأدب بينه وبين نفسه وهو يستشرفُ مأساته ومأساة المجتمع الذي يعيش فيه ويستنفد فيه عمره، ويحاول معتصم في كتاب «الرؤية الفجائعية: الأدب العربي في نهاية القرن وبداية الألفية الثالثة»، أن يقدم أجوبة لهذه الأسئلة انطلاقا من مجموعة من الأعمال الروائية العربية تنتمي إلى مختلف الأقطار العربية وصادرة عن كتاب من أجيالٍ متباينة. ولعل اختيار نماذج إبداعية بهذه الطريقة مقصود في حد ذاته لتبيان أن ما اصطلح عليه بالرؤية الفجائعية تشكل مشتركا عربيا «يتوارثَهُ» الإبداع في العالم العربي وينقلها جيلٌ لآخر، تماما كما تُنقل الجيناتُ الوراثية؟ وهذا واضح من قول الكاتب «يلاحظ أيضا أن جيل السبعينيات صعد الصورة إلى حد باتت الأجيال بعده تنظر إليه كمسيح صغير مصلوب نداء لآلام الأجيال السابقة عليه والأجيال اللاحقة» لتترسخ كـ «موقف فكري وإبداعي من مرحلة زمانية كان فيها النهوض كحمل كاذب زاد من ثقل الشعور باليأس في الذات/الذوات العربية» ص 14 وهي مرحلة مستمرة على كل حال. يعمل معتصم على تتبع هذا الموقف لدى ثلة من الروائيين العرب؟ راصدا كيف اختار كل واحدٍ تصريف هذا الموقف؛ ذلك أنه بالرغم من كون الرؤية الفجائعية حاضرة في كل هؤلاء فإن الحدث الروائي الذي اصطفاه كل واحد منهم لتجسيدها مختلف. فالهزيمة متنوعة والخراب متعدد والمأساة متشعبة وإن أدت جميعها في النهاية إلى الإحساس ذاته بالإحباط واليأس والضياع. فهناك هزيمة الوطن وهناك هزيمة الذات. الذات في مواجهة رغباتها وهواجسها الصغيرة والوطن في مواجهة أعدائه، في الداخل والخارج، ومؤامراتهم.
الذات المثقفة وهي ترى أحلامها في حياة أفضل وفي بناء مجتمع حداثي تتهاوى وتنهار، والوطن وهو يرى أحلامه في التقدم والسلام والكرامة تتحطم بفعل الحروب الخارجية وصراعات الداخل حول السلطة والثروات. وبهذا تكون الفجيعة شاملة مادام أن الوطن في النهاية هو الناس، هو مجموع الذوات التي تشكله أي المواطن العادي والمثقف والسياسي وغيرهم، ولكل واحد من هؤلاء هزيمته التي تصب في الهزيمة الكبرى، هزيمة الوطن، ومن هنا يكون الإحساس بضغطها مضاعفا، لكن إحساس الكاتب والمثقف يظل أكثر إيلاما وأشد مضاضة.
وإذ وصلنا إلى هذه النقطة الأخيرة، فإن ما يفعله معتصم وهو يجوب الروايات التي انتقاها لدراسته، إنما هو رصد تحولات المثقف في المجتمعات العربية، وصيرورته الجسدية والنفسية. إن المثقف العربي ظل في القرن الماضي مشدودا إلى أفق من السوداوية بحيث «لا يرى أفقا مفتوحا على التغيير إلى الأفضل وأن الحال يتردى ويتقهقر منتكسا» ص 23. من هنا، فإننا، ربما، بدأنا نتلمس الطريق إلى الأجوبة حول ما إذا كان الأدب العربي المعاصر يعبر فعلا عن الواقع وعن دور المثقف ومكانته في هذا الواقع. ذلك أن المؤلف ومن خلال النماذج الروائية المنتمية إلى بلدان عربية مختلفة يتتبع خطوات المثقف وهو يتدحرج من خيبة إلى أخرى ومن حصار لآخر إلى أن ينتهي به المطاف غارقا في سديم من الضياع، ودخانٍ من الأحلام المجهضة
العدد 2113 - الأربعاء 18 يونيو 2008م الموافق 13 جمادى الآخرة 1429هـ