مرحلة توليه القضاء في البحرين (1927 - 1940م):
لنسلط شيئا من الضوء على البحرين في السنوات الأولى من قدوم الشيخ علي بن حسن آل موسى إلى البحرين.
يقال إن مصر هبة النيل
وهذا هو الرحالة الفرنسي البير لوندر الذي زار البحرين العام 1930م يطلق عبارة «البحرين هبة اللؤلؤ» في كتابه الشهير «صائدو اللؤلؤ» وذلك عندما وجد أن اللؤلؤ الطبيعي يمثل الرئة التي كانت البحرين تتنفس بها فيقول: «إن البحرين هبة اللؤلؤ، فلا تصنع السفن، ولا تخاط الأشرعة، ولا تفتح المتاجر، ولا أحد يسعى، ولا أحد يركب البحر، ولا أحد يعود إلى البر، ولا أحد يدخل يديه في جيوبه، ولا يخرجهما منها، ولا يعيد إدخالهما فيها إلا من أجل اللؤلؤ، إنه الملك، والجميع في خدمته. وعليه يعيش الشيخ ومن دون اللؤلؤ لا يوجد مال، ولا توجد واردات، ولا توجد رسوم جمركية، المورد الوحيد للخزانة، ومن دونه لا توجد تجارة، ولا توجد مضاربات، ولا يوجد استهلاك، ولا يوجد رز للغواصين، ولا توجد أكياس من الروبيات للأفندية، ولا توجد كلاب صيد سلوقية للسلطان، خمسمئة سفينة مسجلة... وخمسة عشر ألف غواص معدودين، فجميع الذكور في هذه البلاد يضعون الملقاط على أنوفهم أو يحملون لفائف القماش القطنية الحمر الصغيرة في أيديهم... هاهم المشترون (الطواويش) وقد جاءوا من جزيرة العرب وفارس والهند، كل واحد منهم يرتدي زيه الوطني... وهناك أربعة من كبار تجار باريس يسيطرون على السوق... نحو 380 مليون فرنك استخرجت من قاع الخليج العام الماضي وأجمل لؤلؤة اصطيدت في موسم العام 1929 بيعت لأحد التجار الكبار الأربعة». (ص 131)
ويعلق مترجم الكتاب منذر الخور على ذلك بقوله: «ومن المدهش أن زيارة البير لوندر للبحرين جاءت قبل سنتين فقط من اكتشاف أول بئر للنفط فيها وذلك العام 1932م حيث بدأت صناعة النفط الجديدة تستوعب أعدادا كبيرة من العاملين في صناعة الغوص بعد تدهور هذه الصناعة نتيجة كساد تجارة اللؤلؤ الطبيعي جراء مزاحمة اللؤلؤ المستزرع». (ص 10)
في هذه الفترة التاريخية بالذات جاء الشيخ علي بن حسن آل موسى إلى البحرين تلبية لدعوة خاصة من تاجر اللؤلؤ المرحوم أحمد بن خميس ويشير المصدر (المرحومة زهراء بنت الشيخ علي بن حسن آل موسى) إلى أن المستشار بلغريف الذي وصل إلى البحرين حديثا قد طلب من الحاج أحمد بن خميس أن يرشح أحد القضاة الذين يتناقل الناس عنهم السيرة الحسنة والسمعة الطيبة لتولي القضاء في قرية السنابس ضمن إطار مطالبة الأهالي بإصلاح القضاء الشرعي في البلاد الذي اكتنفه الكثير من الاضطراب فأشار إليه بأنه قد عثر على ضالته المنشودة فأذن له فدعا (بن خميس) الشيخ علي بن حسن الذي تربطه به صداقة قديمة للحضور إلى البحرين فقد اختاره الأهالي لتولي هذا المركز لسمعته الطيبة بين الناس. يروى عن الأمام الصادق (ع) أنه قال: «ينظر إلى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فليرضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما». وهكذا لبى المترجم له هذه الدعوة الكريمة فقدم إلى البحرين في العام 1927م وجلس للقضاء في بيته الكائن في السنابس وقد أحسن بن خميس هذا الاختيار فقام آل موسى بوظيفته خير قيام وأدى خدمات جليلة لأهالي السنابس وبقية القرى المجاورة ثم بعد مدة أرسل في طلب عائلته وممن جاء إلى البحرين اثنتان من زوجاته (آمنة وعلوية) وبعض أبنائه وبناته بالإضافة إلى باقة من أحفاده وحفيداته كلهم جاءوا في سفينة خاصة (جالبوت) إلى السنابس. وتذكر إحدى حفيداته قصة لطيفة عندما أرادوا الانتقال من تاروت إلى البحرين وكان عمرها آنذاك سبع سنوات أحضروا لهم الأتن (الحمير) للانتقال إلى مرسى دارين فقد كان البحر في حالة الجزر فرفضت والدتها (زهراء) وإحدى خالاتها (فهيمة) ركوب الحمير عبر المخاضة (المقطع) وفضلتا الذهاب سيرا على الأقدام بينما ذهب بقية أفراد العائلة على ظهور الحمير، ومن مرفأ دارين ركبوا سفينة (جالبوت) إلى البحرين وقد استغرقت الرحلة أكثر من يوم وسكنوا جميعا في قرية السنابس في البيت الكبير الذي بناه جدها على ساحل البحر، وظل في قضاء السنابس مدة ثماني سنوات قبل نقله إلى قضاء المنامة.
وعندما عزلت الحكومة الشيخ عبدالله بن الشيخ محمد صالح عن القضاء الشرعي بالمنامة بسبب مطالبة الأهالي قامت الحكومة في العام 1935م بإصدار قرار بنقل الشيخ علي بن حسن آل موسى من قضاء السنابس وتعيينه قاضيا رسميا بالمنامة كما عينت معه للقضاء الشيخ علي بن جعفر أبو المكارم (القديحي) ويكون الحضور مدة أربعة أيام في الأسبوع ويخصص لكل منهما راتبا شهريا مقداره مئة روبية، وكان مجلس القضاء يعقد أحيانا في المسجد وأحيانا في بيت المترجم له بقرب مسجد خميس بفريق الحمام وهذا البيت مبني على الطراز العراقي القديم وقد ذكره المستشار بلغريف في عموده الشخصي عندما زاره ذات مرة في أحد الأعياد (...) وكانت الحكومة قد استأجرته له وبعد فترة (والعهدة على الراوي) أرادت الحكومة أن تسجله باسمه فرفض - المترجم له - وليس غريبا إذا رفض ذلك لأنه ليس بحاجة إلى المزيد من الأملاك فلديه في القطيف ما لديه وفي نيته العودة إلى مسقط رأسه بعد هذا العمر الطويل، كما أنه لم يجد المبرر الشرعي ليتملك هذا البيت وهو لم يدفع فيه أي مبلغ من المال، وهذا يدل على مقدار النزاهة التي يجب أن يتحلى بها من يتولى مثل هذا المنصب الحساس، لا جرم وهو القاضي الذي يعرف الحلال والحرام وقواعد الأحكام قبل غيره من الأنام. يذكر العلامة المحقق الشيخ مرتضى الأنصاري في كتابه «القضاء الإسلامي» ما نصه «لا خلاف في عدم جواز أخذ الرشوة على القاضي وحرمتها أوضح من حرمة جميع الوجوه التي يستفيدها القاضي من جهة القضاء من الأموال التي منها الرشوة ومنها الأجرة ومنها الهدية والهبة والوقف عليه ونحوها ومهما يأخذه بعنوان المعاملة المشتملة على المحاباة». وعن الرشوة يقول الرسول الأكرم (ص): «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم». لأن الرشوة في هذه الحالة نوع من أنواع السحت يقول الأمام علي (ع) في تفسير قوله تعالى «أكالون للسحت» هو الرجل يقضي لأخيه حاجة ثم يقبل هديته. وفي قول آخر وقد عدّد أنواع السحت ومنها «هو الرشوة في الحكم» وفي اللغة الرشوة هي ما يعطيه الشخص للقاضي وغيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد، والراشي الذي يعطي ما يعينه على الباطل. والفرق بين الرشوة والهدية لدى القاضي بأن الرشوة هي التي يشترط بإزائها الحكم بغير الحق، ولأن من يريد الرشا في الحكم غالبا يصدرها بصورة «الهدية» لاستمالة قلب القاضي ليحكم له، ولذلك رفض الشيخ علي بن حسن - إذا صحت هذه الرواية - تسجيل هذا البيت باسمه خشية الوقوع في هذا المحظور أو المطب.
وبعد فترة من الزمن قررت الحكومة نقل القضاء إلى مبنى خاص بالمحاكم فكان الشيخ علي بن حسن ينتقل من بيته إلى مبنى المحكمة بسيارة مخصصة له من الحكومة وكان السائق هو المرحوم السيد أمين العلوي وكان يعتمد أثناء السير على أحد الأفراد لأنه كان يعاني من مرض «الرعاش» الذي أنهك قوته لتقدمه في العمر، وقد صرح برغبته بالتقاعد أو الاستقالة فأحالته الحكومة على التقاعد (نظام الاشتراك) - وقد ذكر ذلك المستشار بلغريف في أحد تقاريره «نكهة الماضي». وقال البعض إنه استقال وهذا غير مؤكد بدليل أن ابنه نصر كان يتسلم راتب والده التقاعدي شهريا بتوكيل من والده من أجل مصاريف العائلة (الماكلة) في البحرين. وبالتحليل يتبين أن التخلي عن وظيفته أو الانسحاب من الحياة العملية إذا صح التعبير كانت للأسباب الآتية:
1 - أن عمره قد تخطى عتبة المئة عام فقد ضعف بدنه وكف بصر (إحدى عينيه) كما ابتلي بمرض «الرعاش» في سنواته الأخيرة. وطبيا أن سبب هذا المرض يعود إلى عجز بعض الخلايا العصبية في المخ عن إفراز مادة «الدوبامين» المسئولة عن حركات عضلات الجسم المختلفة فيحدث مرض الشلل الرعاش المسمى «باركنسون» فأصبح لا يقوى على ممارسة وظيفته كالسابق.
2 - النظرة السلبية لبعض الأهالي تجاه القضاء الرسمي في ذلك الوقت وعدم احترامهم للأحكام التي يصدرها القاضي لفض المنازعات بين الورثة أو إصلاح ذات البين بين الأزواج وإذ إن القاضي ليس من مهماته تنفيذ الأحكام كما كان في الماضي وإنما إصدارها فتبقى بعض الأحكام معلقة من دون تنفيذ من الجهة المسئولة عن التنفيذ ما يعرضه للحرج أمام الناس.
3 - تدخل المستشار تشارلز بلغريف في كل صغيرة وكبيرة في شئون القضاء الشرعي ما جعل القضاة مجرد موظفين وأدوات صغيرة تحت أمرته، وقد عبر عن ذلك الأديب تقي البحارنة بأدق تعبير بقوله: «لا يستطيع أحد أن يدخل خيطا في إبرة إلا بأمره».
وكان المستشار يتحكم حتى في قضايا المحاكم الشرعية، ما ألب عليه الرأي العام البحريني لعزله واستبعاده من البلاد وكان هو يعرف ذلك ولكنه يعزو سبب ذلك بقوله: «نقل عبر الإذاعة (العام 1956م) نبأ قيام الملك حسين عاهل الأردن بعزل الجنرال الإنجليزي جلوب باشا بصورة غير متوقعة فتسبب هذا النبأ بحدوث بلبلة وأثار صدى كبيرا بين الناس في البحرين «أما سكرتير هيئة الاتحاد الوطني المرحوم عبدالرحمن الباكر في كتابه «الأوضاع السياسية في البحرين» فيقول: «والغريب في الأمر أن هذا المستشار نفسه هو المستحوذ على السلطة القضائية والسلطة التنفيذية وقمندان الشرطة فهو يمارس سلطاته التشريعية والتنفيذية والقضائية كلها في آن واحد وعلى مرأى من حكومة الدولة البريطانية التي لم تعد تخجل من بقاء تلك الأوضاع المخزية على صورها القائمة في بلد أباحت لنفسها فيه التطاول على حريته واستغلال موارده وخيراته بدعوى حفظ الأمن والنظام ونشر العدالة المدنية.
وقد أدرك صاحب الترجمة هذه الإشكالية فقرر الانسحاب فقد وجد أن السلطة القضائية مرتهنة وليست مستقلة كما هو المفترض فيها أن تكون حتى تصدر أحكامها من دون تحكم أو تأثير من أحد. وقد قال أحد أحفاده فيه هذين البيتين:
عقل القاضي قد احتار بين الشرع والمستشار
لكن عرف ماذا يختار الجنة بدل النار
العدد 2113 - الأربعاء 18 يونيو 2008م الموافق 13 جمادى الآخرة 1429هـ