أن تتعلّم لغة قوم لتأمن شرّهم عبارة بإمكانها أن تتسع لتضمّ اقترابات كثيرة من الأقوام والأمم الأخرى، ومنها الاقتراب المعرفيّ من المجتمع الإسرائيلي بغرض استثمار ذلك في فهم أفضل لقواعد الحراك التي تحكم عملية الصراع الدائر في المنطقة.
«إسرائيل» بوصفها نموذجا للديمقراطيّة الحقّة عبارة غير ذات صدقيّة يروّج لها البعض، فالواقع الذي يتجلّى من خلال قراءة كتاب «الحريديون والمجتمع والسياسة في إسرائيل» لإيلان شاحر مختلف تماما، فـ «إسرائيل» فسيفساء متناقضة حدّ التنافر، هذا إن أبعدت التفوّق العسكريّ وما يستتبعه. أما الفكرة التي يروّج لها بعض المتابعين بأن ما يتمّ تناوله بهذا الشأن ما هو إلا مسرحيّة للّعب على عقول العرب السذّج فقد انصدعت قبل 14 قرنا تقريبا بنصٍّ مقدَّس «تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى»، وانصدعت أخيرا مع نصٍّ آخر بانتصار المقاومة اللبنانيّة التي استطاعت اللّعب على وتر التناقضات فأفلحت.
وأتى الكتاب الذي ألّفه الصحافيّ شاحر المختصّ في الشأن الحريديّ واحدا من الإثباتات على خطأ مقولة «ديمقراطيّة إسرائيل»، وقد عالج تأثير تنوّعات المجتمع البشريّ في «إسرائيل» على توازن قوى المصالح في السياسة الداخليّة والخارجيّة، مدعّما مقولاته بالإحصاءات واستطلاعات الرأي ووثائق الأرشيف الحكوميّ.
الكتاب الذي يقع في 146 صفحة من الحجم الصغير وفي ستة فصول يشير إلى أنّ الطائفة الحريديّة ذات المكوّنين الشرقي والإشكنازي تمثل «السلفيّة اليهوديّة»، وهو المصطلح الذي ابتعد عنه مترجم الكتاب عن العبرية إسماعيل الدبج منعا للمقارنات الخاطئة وحفظا للتسمية الأصلية. والحريديّ (الحريديم بالعبريّة) تيار من الأصوليّة اليهوديّة متعدّد الأجنحة والفرق، يجمع بينها الادّعاء بالتمسّك نظرا وعملا وسلوكا بحرفيّة الموروث اليهوديّ من التوراة والتلمود وما أثر عن القدماء الصالحين.
يتميّز الحريديّون في العموم بمناهضة الصهيونيّة نظرا للمنطلقات العلمانيّة التي أسّست عليها، دون أن يعني ذلك اعتدالا سياسيّا البتّة. والحريديّون لهم أحزاب تمثلهم في الكنيست والحكومة الإسرائيليّة، وأهم حزبين هما: «شاس» الذي يتزعّمه الرابي عوياديا يوسف (الجناح الشرقيّ، وأسّس 1984)، وكتلة «يهدوت هتوراة» (المتشكّلة من حزب الجناح الليتوانيّ «ديغل هتوراة» وحزب الجناح الحسيديّ «أغودات يسرائيل»). والحريديّة التي يتعرّض لها الكتاب هي القسم الثاني من الحركة الدينيّة في «إسرائيل»، فيما توجد حركة أخرى هي الحركة الدينيّة الصهيونيّة ويمثلها رسميا حزب «المفدال» الدينيّ الوطنيّ، وبينهما المتديّن العادي المحافظ على الشعائر التقليديّة.
ووفق ذلك التقسيم توجد ثلاثة أطر تعليميّة: التعليم الحكوميّ التابع لوزارة التعليم موازنة وإشرافا، والحكوميّ الدينيّ التابع للوزارة ماليّا وللحركة الدينية الصهيونيّة إشرافا ويجمع بين المنهجين، أما التعليم الدينيّ الخاصّ فلا إشراف للدولة عليه إلا أنّها تدفع نفقاته بناء على اتفاقات سياسيّة ويضمّ مختلف المدارس الدينيّة (اليشيفوت) التي تتبع الحريديّين.
الطالب المنتسب للمدارس الدينيّة الحريديّة «مهنته توراته»، وهذا الفهم هو ما فتح بابا من الصراع بين الحريديّين وبين ساسة «إسرائيل» العلمانيّين، إذ فتحت «اليشيفوت» بابا لهروب الآلاف من الخدمة العسكريّة مدى الحياة، والتربّح من موازنة الدولة مع عدم دفع أيّة ضرائب بناء على اتفاقات سياسيّة تاريخيّة.
الحريديّون يتعاملون مع الحكومة الإسرائيليّة العلمانيّة على أنّها «مغتصبة»، وأنّهم مضطرّون لأن يبتزّوا لصوصا للحصول على حقوقهم الأصليّة، والتحايل حينها مشروع بكلّ أشكاله لا تقف دونه محرّمات أو موانع، طالما أن الدولة ليست دينيّة توراتيّة.
يعالج الفصل الأول من الكتاب مواقف الحريديّين المتشدّدة من الديمقراطيّة والقضاء والإعلام والعرب والسلام، فيما يتعرّض في الفصل الثاني إلى أساليب التحايل التي يلجأون إليها للفوز في الانتخابات من تزوير وتمائم. وفي الفصل الثالث يتحدّث عن تحايل الحريديّين في الاستجابة للخدمة العسكريّة، وموقفهم المتشدّد من المرأة والإنترنت والإنجاب. وفي فصله الرابع يتكلّم عن الدراسة الدينيّة البحتة (التقليديّة) في «اليشيفوت» التي كثرت تجاريا فيما هي تنتج جيلا متخلّفا وقاية من خطر العلمانيّة. وفي الفصل الخامس يتعرّض لنشاط «الهداية للحريديّة» الذي يحوّل التوبة إلى صناعة تدرّ مالا. وفي الفصل السادس يتعرّض للمحطّات الإذاعيّة غير القانونيّة في «إسرائيل» المعروفة بـ «قنوات القداسة» التي تنزّ عنصريّة ودعوة للتمرّد على الديمقراطيّة الإسرائيليّة. وأخيرا يختتم الفصل السابع بالحديث عن الضرائب والسوق السوداء والعمل الأسود الغارق فيه المجتمع الحريديّ.
يصير القارئ في نهاية الكتاب إلى أن الحريديّين لا يمنعهم من تحقيق أهدافهم شيء أبدا، وأن المال صناعتهم فيها يحيون، وهم مجتمع عالة ومتخلّف وسيقودون وأمثالهم «إسرائيل» إلى الزوال بأيديهم وأيدي المؤمنين
العدد 2113 - الأربعاء 18 يونيو 2008م الموافق 13 جمادى الآخرة 1429هـ