العدد 2113 - الأربعاء 18 يونيو 2008م الموافق 13 جمادى الآخرة 1429هـ

من حماقات التاريخ!

قاسم حسين Kassim.Hussain [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

مع مرور الذكري 29 اختلفت اجتهادات المؤرخين في سبب تفجر الثورة في إيران. فمنهم من أرجعها إلى اغتيال علي شريعتي دهسا في حادث سيارة بلندن على يد «السافاك»، ومنهم من أرجعها إلى اغتيال مصطفى الخميني بالسم في النجف، ومنهم من اختار أسبابا أخر.

غير أن هناك سببا آخر يعود إلى حماقة وزير الإعلام الشاهنشاهي آنذاك، حين «دسَّم» أحد الكتاب المرتشين ليكتب مقالة منفلتة في صحيفة «كيهان»، وصف فيها رجال الدين بالرجعية السوداء، ما أدى إلى نزول الناس إلى الشارع للدفاع عن الشخصيات التي يوقّرونها.

الاحتجاجات بدأت عفوية، وأخذت الكرة تتدحرج من مدينة إلى أخرى، وفي كل مظاهرة كان يسقط ضحايا جدد على أيدي قوات الجيش، وتقام لهم حفلات تأبين بعد مرور أربعين يوما، وفي «الأربعينية» يسقط ضحايا آخرون، وهكذا كرَّت المسبحة حتى انتهت الحوادث إلى تغيير وجه إيرن والشرق الأوسط!

كان الخميني حينها يعيش في منفاه بالعراق، لم يسمع به حتى أكثر علماء الدين، وخصوصا أن خمسة عشر عاما قد مرت على قيادته لحركة احتجاج محدودة في مدرسة دينية اسمها «الفيضية» في مدينة قم الصغيرة، عارض فيها منح الأميركيين حصانة تضعهم فوق القانون، العام 1962. يومها داهم رجال المخابرات حلقة درس الإمام وضربوا طلابه واعتقلوا من يشاءون، واقتادوه إلى سجن «إيفين» شمال طهران، ومن هناك نفي إلى تركيا، التي خرج منها ليستقر في النجف بعد أقل من عام.

لقد أصبحت «الفيضية» جرحا قديما منسيا لم يعد يذكره أحد. وعاش الخميني منفيا يدرِّس الأخلاق والفلسفة الإسلامية في إحدى زوايا النجف، وفي أحد الأعوام أخذ يتحدث عن شيء غريب اسمه «الحكومة الإسلامية».

في 1977 أقام الشاه محمد رضا أريامهر احتفالا بذكرى مرور ألفين وخمسمئة عام على الامبراطورية الفارسية، متحديا مشاعر ومعتقدات الشعب الإيراني المسلم، ومتناسيا تاريخ أربعة عشر عاما من الإسلام. يومها شاركه الفرحة عشرات من رؤساء وملوك وسلاطين الدنيا، وفي نشوة الشعور بالانتصار بثورته البيضاء، خرج رئيس تحرير صحيفة «كيهان»، بذلك المقال «التاريخي» الذي أراد فيه التحرش بعلماء الدين المستقلين الذين لم يتمكن قصر «نيافران» من شراء عمائمهم... وهكذا امتلأ الأفق بالسحب السوداء.

غضبٌ غريبٌ لم يفهمه أكثر المحللين الغربيين، واحتجاجاتٌ عفويةٌ لم يخطط لها حتى الخميني في منفاه، أخذت تعم المدن والدساكر وأحياء الصفيح. جاء الفقراء والمهمشون والحيارى والضائعون ليتحلقوا في الشوارع. وعاد العجوز المنفي متوجا على عرش قلوب الملايين، بينما خرج محمد رضا لاجئا إلى دولة عربية استضافته بعد أن تخلت عنه حليفته أميركا ورفضت حتى استقباله للعلاج.

طبعا ليس هناك عاملٌ أو حدثٌ أو مقالٌ واحدٌ يمكن أن يتحكم في توجيه مسار التاريخ، ولكن المفارقة أن بعض الانعطافات الكبرى إنما كانت حصيلة تجمِّع عدة حوادث وحماقات صغرى.

بعض العارفين بالسياسة الدولية، يقول إن محمد رضا لم يندم على شيء في حياته مثل ندمه على ذلك المقال، وكان يتمنى لو عاد إلى إيران فقط ليشنق ذلك الكاتب الأحمق! ويقال إنه كان يردد وهو يحتضر على فراش المرض بأحد مستشفيات القاهرة: «كيهان... بنت الكلب»

إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"

العدد 2113 - الأربعاء 18 يونيو 2008م الموافق 13 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً