تطرقنا في مقال سابق إلى ثوابت السياسة الأميركية تجاه منطقتنا التي أسست على محورين: محور تملك النفط، ومحور حماية «إسرائيل» وضمان تفوقها العسكري على دول المنطقة دعما لسياسة التوسع. وأوضحنا أن سياسة تملك النفط لا تعني ضمان تدفقه إلى أسواق العالم فقط كما يتم الترويج له، فسياسة تملك النفط لها أبعاد أخرى تمنح أميركا قدرا كبيرا من الشراكة في قرار حجم الإنتاج واحتكار تقنياته، وفي تدوير عائداته على شكل مبيعات سلاح وعقود للصيانة ومشروعات للتوسعة.
إن تحقيق ثوابت السياسة الأميركية هذه يتطلب قدرا من القبول والتوافق من قبل دول المنطقة وفقا لطبيعة المصالح المشتركة بين الطرفين. وهذا التوافق يعني الاشتراك في وضع وتنفيذ الخطط الوقائية اللازمة لإجهاض ما يتقاطع مع مشروعات تنفيذ هذه الثوابت، ومن ضمنها احتمال حصول أي توافق إقليمي يتعارض مع مشروعات التنفيذ. وللحيلولة دون ذلك من الطبيعي العمل على نشر ثقافة التباعد على المستوى المحلي، وإشاعة ثقافة الشك والخوف على المستوى الإقليمي. ومن الأدوات اللازمة لنشر ثقافة التباعد تحفيز نزعة التفرد والاستئثار الكامنة في طبيعة تكوين المجتمع، واستغلال نزعات التطرف لتكون طرفا مساعدا في النزاعات الإقليمية كما حدث في أفغانستان والعراق حين خاضت أميركا الحروب من خلال هذه الأطراف وبشراكة مباشرة معها.
من الواضح أن أميركا ليس بوسعها تنفيذ مشروعات بهذا الحجم والتعقيد من دون إيجاد الشراكة مع الأدوات المحلية اللازمة للتنفيذ، ويمكن تحديد هوية هذه الأدوات من خلال إبراز مواقفها وأفعالها كما تجسدت على ارض الواقع كما يأتي:
- التوافق الملحوظ في الرؤى بين بعض من دعاة الوحدة وبعض من دعاة التوحيد من جهة وبين أميركا من جهة أخرى حيال جهات الممانعة لثوابت السياسة الأميركية، كاعتبار الصمود أمام الهجمة التوسعية الإسرائيلية على لبنان خطيئة وهزيمة، وقيام البعض بالتضرع لله لتنتصر «إسرائيل».
- التوافق على اعتبار «إسرائيل» عدوا ثانويا، وتحويل الأنظار منها إلى عدو آخر تستحق مواجهته الأولوية على مواجهة سياسة «إسرائيل» التوسعية. وهكذا تفعل الحرابة بين المسلمين تناغما مع أهداف عدوهم.
- بروز ظاهرة دراويش الفتنة والتكفير وتمكينها من المنابر إمعانا في الفرقة والتشطير، وكان آخرها البيان الصادر من بعض رجال الدين المتشددين الذي اعتبر الحوار بين المسلمين فتنه على رغم التوجهات الحكيمة لقادة تلك الدولة الشقيقة المتمثلة في عقد مؤتمر الحوار على أراضيها. فمثل هذه البيانات المشبوهة تتطابق مع أهم بند في برنامج تنفيذ الثوابت السياسية المشار إليها، ألا وهو الفرقة والتباعد ضمن سياسة الفوضى الخلاقة. والمفارقة هنا أن تشطير الأمة ينفذ تحت شعار التوحيد تارة وشعار الوحدة تارة أخرى, فباسم التوحيد يكفر المسلم أخاه، وباسم الوحدة يغزو الجار جاره، ثم يستعين الموحدون بأميركا التي يلعنونها ليل نهار ويدخلون معها في شراكة للحرابة والاحتراب. لهذه الأسباب اعتبرت العنصرية والفئوية وجهان لعملة واحدة, فكلاهما يمثلان الاستئثار وإلغاء الآخر ومن ثم تشطير الأمة.
- شيوع ظاهرة الاستئثار بالسلطة والثروة كأداة فاعلة للفرقة والتباعد بين مكونات
المجتمع، وتشجيع بروز مفهوم الحزب الضرورة والقائد الملهم والفئة الواحدة، لغرض التنكر لحقوق الآخر في تناغم واضح مع أهداف إضعاف الأمة.
- التنسيق والتحالف بين بعض دعاة الوحدة والتوحيد على رغم تعارض شعاراتهما لكون النزعة للاستئثار وإلغاء الآخر تتفوق في حدتها على تلك الشعارات الاستهلاكية المرفوعة.
هذه الحقائق تتجسد ماثلة في مجتمعاتنا, وعلى رغم كل ذلك نصرّ على عدم تقبل المسئولية حيالها، وعوضا عن التمعن في معالجة مسبباتها يشغلنا غلاة الوحدة والتوحيد بسب أميركا ولعنها في حين أن أفعالهم ما هي إلا تجسيد لمشروعاتها، فهؤلاء يشغلون مجتمعاتهم بهذه الشماعة التي تقترب من توصيل مواطن أسود لسدة رئاستها، في حين ينكرون على شركاء لهم في الوطن واللغة والدين المساواة أبسط حقوق المواطنة.
إنها حقا شزوفرينيا سياسية وانفصام أخلاقي غير معهود, فكيف يصدق إنسان عاقل أن صدّ مشاريع الطامعين يكمن في تكفير المسلم لأخيه، أو في الاستئثار بالسلطة والثروة وإلغاء ما تبقى من مكونات المجتمع؟ وإذا كان التشطير والفرقة هدفا من أهداف الطامعين فلماذا الإصرار على تنفيذ مشروعاتهم بتغليب نزعة المصالح الفئوية على حساب الانتماء الوطني؟
فيا غلاة الوحدة والتوحيد توقفوا عن تنفيذ مشروعات أميركا في أوطانكم قبل أن تلعنوها، حينها ستكون لشعاراتكم صدقية عندما لا تتقاطع مع أفعالكم.
إقرأ أيضا لـ "عبدالحسن بوحسين"العدد 2112 - الثلثاء 17 يونيو 2008م الموافق 12 جمادى الآخرة 1429هـ