تحتاج الحلقات السابقة من المذكرات إلى إعادة نظر في الكثير من التواريخ والحوادث على ضوء الوثائق المتوفرة عن تلك المرحلة التاريخية، فالكثير من الرفاق مهتمون بتلك المرحلة، والبعض بدأ يكتب، ولابد من التعاون لتصحيح الأخطاء، وتحديد مسئوليات البعض ومواقف البعض من القضايا السياسية والنضالية التي نتحمل مسئوليتها. ومن المفيد بالنسبة لنا جميعا أن نكشف الأوراق... والوثائق، رغم الخطاب العنيف التي اتسمت به، والذي يبدو أن السلطات الحاكمة في البحرين وغيرها من دول الخليج غير قادرة على تحمله في الوقت الحاضر، رغم أنه أصبح جزءا من الماضي، ورغم أن عالما بأكمله من القيادات القومية واليسارية، ناهيك عن المعسكر الاشتراكي قد رحل وبات في ذمة التاريخ، وبات الصراع في المنطقة مختلفا عن سابقه من حيث القوى الأساسية الفاعلة فيه. وحيث إننا نرى ضرورة عودة التيار الديمقراطي في عموم الأقليم وعموم الوطن العربي إلى الفعل النشط مع التيار الإسلامي المناضل، على أرضية الدفاع عن المصالح الوطنية والقومية والإنسانية لشعبنا وأمتنا، وليس على أرضية الدفاع عن مصالح المعسكر الاشتراكي أو الجمهورية المتحدة أو اليمن الديمقراطي، أو غيرها من البلدان التي كانت جزءا من المعسكر المعادي للإمبريالية، وكان الاتهام باستمرار لقوى التحرر بأنها مرتبطة، مُسيّرة، عميلة، تنفذ مخططات أجنبية، لديها أجندات سوفياتية او ناصرية أو يمنية أو غيرها!! وأصبح الحال غير الحال السابق، رغم أن الاتهامات قد استبدلت أسماء بأسماء، إلا أن العدو لا يزال هو هو... الأجنبي الذي يريد نهب الثروات وتقسيم وإعادة تقسيم المقسم وسلب الإرادة المستقلة لشعوب المنطقة... والحفاظ على أمن القاعدة الاستيطانية العنصرية في فلسطين.
عالما بأكمله قد رحل، ومن حق الجيل الحالي الذي لا يعرف الكثير عن حقائق تلك المرحلة أن يعرفها، ومن واجبنا أن نسلط الأضواء عليها، وأن نعتبر الماضي ملكا لنا جميعا وليس ملكا لهذه الجبهة أو تلك أو الجمعية السياسية أو غيرها، فالتحرر من سلبيات الماضي قد تساعد التيار الديمقراطي على التوحد في الوقت الحاضر... إذا لم تكبله أغلال المرحلة السابقة، ولم يعتبر نفسه أسير الماضي، بل مشروعا للمستقبل...
المؤتمر التوحيدي للجبهتين الشعبية والديمقراطية والذي جاء نتيجة قرار اللجنة المركزية للحركة الثورية الشعبية، مترجمة بذلك قرارات المؤتمر الثالث لها، كان محطة لترتيب الأوضاع التنظيمية في عموم المناطق، من الكويت إلى عمان الداخل... بالإضافة إلى المجال الطلابي... وبات واضحا (من خلال المؤتمر التوحيدي ونقاشاته) أن قيادة الحركة الثورية الشعبية التي تقود العمل الجبهوي ليست موحدة في رؤيتها للتكتيكات والسياسات التي يجب أن يسير عليها العمل الجبهوي، وكان الاتهام الأساسي للقيادات من خارج ظفار أنها لم تقم بما فيه الكفاية من ترتيب الأوضاع الجماهيرية وبالتالي القيام بالأعمال النضالية التي تخفف وطأة الحرب الشرسة على المناطق المحررة من ظفار، وباتت مسؤلية الرفاق من بقية المناطق استنهاض أوضاعهم وتقديم نموذج للعمل النضالي الذي يرونه صحيحا، وهو العمل الجماهيري المرتبط بالمصالح الطبقية للفئات الشعبية.
كانت بيروت محطة مستمرة بعد ذلك المؤتمر، وبعد كل إطلالة على عدن... يستريح فيها الرفاق الذين يشدون الرحال إلى مناطق الخليج المختلفة، بأسليب وطرق مختلفة، على ضوء إمكانيات الحركة الثورية والدعم الذي كانت تقدمه فصائل الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، التي نسجت علاقات واسعة مع كل قوى التحرر في المنطقة العربية، لإيمانها بمركزية القضية الفلسطينية من جهة، وأهمية استنهاض كل قوى التحرر في المنطقة لدعم الثورة الفلسطينية وفصائلها، بالإضافة إلى قناعة الجميع بأن المخطط المعادي يستهدف كل القوى المعترضة على المشروع الأجنبي.
كانت المهمة الأساسية التي أوكلت إليّ في تلك الفترة، بالإضافة إلى سكرتارية اللجنة التنفيذية للحركة الثورية الشعبية، هي قيادة العمل التنظيمي في عدد من المناطق ... وباتت المهمة الأساسية بعد المؤتمر المركزي توحيد فروع الجبهتين في مناطق الخليج، حيث تتواجد فروع للجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية...
كانت الجبهة الشعبية قد استقطبت الكثير من مناضلي وأبناء ظفار في غالبية المناطق الخليجية، أما الجبهة الوطنية الديمقراطية التي أعلنت عن نفسها قبيل حركة التغيير في مسقط (12 يونيو1970) فقد كانت حديثة النشأة، ولم تتمكن من استقطاب الكثير من الشخصيات التي ارتبطت بحركة الإمامة وتفرعاتها لاحقا، واعتمدت على حركة القوميين العرب بالدرجة الأساسية، تلك الحركة التي لحقت بها الكثير من الأضرار من جراء التحولات الفكرية والسياسية التي تمخض عنها مؤتمر دبي (يوليو 1968) حيث أعلنت التزامها بالماركسية اللينينية والعنف الثوري وتخليها عن الكثير من الأفكار التي سارت عليها الحركة القومية ... ولم تتردد عن فصل أو تجميد الكثير من العناصر القيادية القومية ... بل والعداء لها في بعض المناطق.
وحيث كانت الهجمة شديدة على الجبهة الشعبية، فقد كان أعضاؤها يراهنون على تقوية أوضاعهم بالتوحد مع الجبهة الديمقراطية، لكن المؤتمر التوحيدي في الكويت لفرعي الجبهتين، والذي أوكلت إليّ مهمة الإشراف عليه، لم يحقق المعجزة التي أرادها البعض، لكنه وحد الجهود العمانية بالدرجة الأساسية، حيث كان البحرينيون في غالبيتهم من الطلبة الذين لعبوا أدوارا كبيرة في تشكيل لجنة مناصرة الثورة في عمان، بالتعاون مع الإخوة الكويتيين... ولم تكن الجهود لبلورة صيغة تنظيمية لبقايا الحركة الثورية الشعبية الكويتية قادرة على إيجاد منظمة ماركسية نشطة في الكويت، رغم الجهود التي بذلت من أجل ذلك، والمحاولات التي بذلها البعض لتأسيس حزب عمالي أو يساري سرعان ما وجد نفسه عاجزا عن الفعل النشط في الساحة السياسية الكويتية، حيث وصلت سفن البعض إلى تشكيل حزب اتحاد الشعب، الذي اندمج لاحقا مع التيار الديمقراطي بعد حرب الخليج الثانية، لتشكيل المنبر الديمقراطي في الكويت.
لم تكن الكويت إلا محطة... بقيت فيها لمدة شهر... وبعد استكمال المهمات التنظيمية أمكن ترتيب السفر إلى بقية مناطق الخليج، حيث تم الاتفاق مع الرفاق في اللجنة التنفيذية على أن يكون المستقر في دبي، التي شكلت محطة لكل المنطقة من عمان الداخل إلى البحرين، لسهولة التواصل بين العناصر المنظمة في تلك الفترة... وكان البحر وسيلة ممتازة للوصول إلى دبي، حيث السفن المنطقة إلى بومباي تمر عبر موانئ الخليج، وتشكل دبي أحد محطاتها الرئيسية بعد البحرين وقطر...
وحيث توقفت السفينة في ميناء سلمان في البحرين، ولمدة أربع وعشرين ساعة، فقد كان الاستغراب واضحا لدى المسافرين الذين لا يصدقون أنهم وصلوا البحرين وبإمكانهم النزول والتجول والتمتع بأجواء البحرين، فلماذا لا يستطيع هذا ... أن ينزل معهم؟... كان الجواب صعبا للغاية، وكانت الرغبة في رؤية البحرين كبيرة، لكن يصعب تحقيقها في تلك الفترة، بل وفي فترات لاحقة، حيث كانت أجهزة الأمن تمنع الأبناء من النزول إلى البحرين، كما جرى مع البنت الكبرى (أمل) التي أرادت العودة عام 1982، لكنها أجبرت على البقاء يومين في المطار ثم أعيدت مرة أخرى عبر مطار الظهران، وبلغها الضابط المعني بالأمر بأن عودتها مرهونة بعودة أبيها!!
في ميناء الدوحة، لم تستغرق استراحة البارجة أكثر من ست ساعات، أبحرت بعدها إلى دبي ... ذلك الميناء الساحر الذي يستقبل سفن المحيط والخليج في حركة مستمرة ومتصاعدة منذ أن قرر حاكمها أن تكون دبى، لا غيرها من الموانئ ، هي ميناء الترانزيت الأساسي في منطقة الخليج...
في ميناء دبي كان الرفيق الشهيد أحمد علي (زاهر) في الاستقبال... هذا المناضل الرائع الذي التحق بحركة الإمامة، وغادرها بسرعة بعد أن وجد أنها تعبر عن الماضي أكثر من تعبيرها عن المستقبل، وقاد الحركة الطلابية العمانية في العراق، ثم التحق بحركة القوميين العرب، وبات من أبرز عناصرها اليسارية ... هذا المغامر المطلوب في كل عواصم هذه المدن الخليجية، لكنه كان بارعا في التخفي والتنكر واستخدام عشرات الجوازات من مختلف الأشكال، والعودة إلى مسقط والخروج منها، وهو المطلوب رأسه بعشرات الآلاف من الريالات بعد انتفاضة 12 يونيو/ حزيران 1970، وبعد الأحداث العمالية في روي، وبعد أحداث الرستاق عام 1971.... كان قد سبقني إلى دبي بعد المؤتمر التوحيدي، الذي تشاركنا فيه الهموم، وكان الأقرب إلى القلب من جميع الرفاق، كنا نتحدث بلغة واحدة، بل نكمل بعضنا البعض، ولا أتذكر أننا اختلفنا منذ أن تعرفنا على بعض في مؤتمر دبي الاستثنائي 1968... ومعه انطلقنا إلى بيت التنظيم في بر ديره، ولمدة ثمانية أشهر، اضطررت بعدها إلى مغادرة المنطقة، فقد بات واضحا أن الأجهزة الأمنية قد عرفت بوجودي وإنها تريد إلقاء القبض علي بأي طريقة..
العدد 2302 - الأربعاء 24 ديسمبر 2008م الموافق 25 ذي الحجة 1429هـ