العدد 2302 - الأربعاء 24 ديسمبر 2008م الموافق 25 ذي الحجة 1429هـ

طفولة شقية أسست أسطورة جنكيزخان

«منغول» يتحدث عن ثقافة محكومه بالعنف

قبل عشر سنوات بدأت السينما الأميركية والأوروبية بإعادة اكتشاف شخصية جنكيزخان التاريخية. وأقدمت خلال تلك الفترة على إنتاج أشرطة تتحدث عن الجانب العسكري لهذا الرجل المغولي الذي قيض له ولأولاده في تأسيس إمبراطورية واسعة الأطراف امتدت شرقا من الصين وصولا إلى بلاد الشام غربا.

إمبراطورية جنكيزخان ساهمت في تغيير مجرى التاريخ في القرن الحادي عشر وأسست مواقع عسكرية كان لها دورها في إسقاط حضارات وحرق مدن وتحطيم ممالك واختراق ثقافات. وأخطر وأسوأ ما فعله أبناء جنكيزخان وورثته هو تدمير بغداد وحرقها ونهبها وإنهاء عصر الخلافة العباسية. وشكل هذا الحادث الكارثي نقطة تحول في نمو الحضارة الإسلامية ما أدى إلى تدهور المنظومة الدولية للإسلام وبدء مرحلة التراجع في قيادة العالم. مسيرة جنكيزخان ثرية في تضاعيفها الشخصية والاجتماعية والعسكرية. وبسبب هذه السيرة التي عاصرت بدء تراجع حملات الفرنجة على بلاد الشام تشكلت مادة تاريخية غنية حاولت الشركات السينمائية الاستفادة منها لإلقاء الضوء على زوايا مهمة في تاريخ الصراع بين الشرق والغرب.

اكتشاف جنكيزخان سينمائيا جاء بناء على رغبة فنية وحاجة سياسية. فالجانب الفني يكشف ذاك الإطار الأسطوري لهذا القائد العسكري. والجانب السياسي يعطي صورة عن الصراع بين عالمين وامتداده الجغرافي - التاريخي إلى زمن بعيد وقريب. فالبعيد يتجاوز عمره ألف عام والقريب يتواصل الآن في تلك المواجهات الدائمة بين الإسلام والغرب. وجنكيزخان في الحاجة المذكورة يمثل صورة مختلفة عن هذا الصراع ولكنها مندمجة في تأثيراتها الميدانية. فالفرنجة حين بدأ الضعف ينتشر في ممالكهم في بلاد الشام أخذوا يتصلون بالمغول وعرضوا عليهم خطط تنسيق لمواجهة خطر الإسلام المشترك. إلا أن قوة الإسلام التي أخذت بالنمو بعد هزيمة حطين في عهد صلاح الدين الأيوبي كانت كافية لإنزال هزيمة بالمغول حين قرر تيمور لنك احتلال بلاد الشام. وبعد تلك الهزيمة التي قادها المماليك تحول المغول رويدا إلى الإسلام واستقروا في الديار وأسسوا ممالك إسلامية ساهمت في تشكيل حضارة مختلطة من ثقافات تركت بصماتها العمرانية والفنية على الشعوب الهندوصينية.

هذا الجانب التاريخي العنيف في تحولاته تناولته الكثير من الحكايات والأشرطة السينمائية. إلا أن هناك جوانب أخرى مسكوت عنها في شخصية جنكيزخان وهي تلك المتصلة بطفولته والبيئة الثقافية التي عاشها والظروف الصعبة التي واجهها خلال فترة نموه الشبابي وقبل أن يصبح تلك الشخصية الأسطورية لاحقا.

صور الطفولة الشقية التي تشكلت في وعي جنكيزخان وذاكرته تأسست في مكان جغرافي تتحكم بآلياته صراعات قبلية دموية ساهمت في تأسيس ثقافة نمطية تربى عليها الطفل. جنكيزخان لم يأتِ من فراغ وإنما جاء من مكان ما وحضارة معينة وأقوام وسلالات. وهذه الثقافة المغولية هي بالضبط ما أراد فيلم «منغول» أن يتحدث عنها في الشريط الذي يعرض الآن في سينما السيف.

سيناريو «منغول» على رغم ضعفه وتشتته وعدم قدرته على السيطرة على تتابع مشاهد الصور نجح في تقديم مادة ثمينة عن عادات وتقاليد كانت سائدة في حضارة اتصفت قبائلها بالعنف والدموية والاعتماد على الذات وتحدي قساوة الطبيعة.

يتحدث سيناريو الفيلم عن طفولة جنكيزخان والمكان الجميل في تضاريسه والمتطرف في مناخه البارد. فالرجل الأسطورة جاء من هذه البيئة وتربى على عادات قبائل اشتهرت بالغزو والسلب والقهر وكان للطفل نصيبه الوافر منها. فوالده قتل غدرا واغتصب ملكه أنصاره وأصحابه. وزوجته التي انتظرته طويلا ليكبر تعرضت للخطف من الخصوم وربما الاغتصاب. وعائلته عاشت وحيدة بسبب اضطراره للاختفاء أو الهرب من ملاحقة الخصوم. الطفل عاش حياته القاسيمة ونمت شخصيته وسط دائرة من العنف الذي لا يتوقف ولا يحترم أبسط قواعد الحياة. فالقبائل بالغت في تطرفها وأفرطت في استخدام العنف إلى درجة كانت تقتل في غزواتها النساء والأطفال والشيوخ والعجزة. وبسبب سيرة الطفل المجبولة بحكايات القهر والإذلال والتشرد والظلم قرر حين بلغ مرحلة الشباب وضع حد للاقتتال القبلي ومنع قتل الأطفال والنساء والشيوخ.

قرار جنكيزخان بدأ بسيطا ومن داخل ثقافة «منغوليا» ولكنه تحول إلى قواعد عمل حين نجح «الخان الأكبر» في وضع قوانين ترسم حدود الصورة التي أراد شعبه أن يتجه صوبها حقنا للدماء. بدأت دولة جنكيزخان من خلال تحطيم دورة العنف وتلك الحروب الأهلية الدائمة. وحتى تكون الدولة فوق القبيلة صاغ مجموعة قوانين حرمت قتل الأطفال والنساء ومنعت الخيانة والسرقة والسلب. وحين نجحت دولة جنكيزخان الصغرى في تحطيم دورة العنف أخذت بتوحيد القبائل تحت راية القانون. وبعد تلك الخطوة تطورت الدولة وتحولت إلى إمبراطورية عظمى اجتاحت الشرق وتقدمت بسرعة هائلة باتجاه الحواضر الإسلامية ومدنها وارتكبت مجازر ضد البشر وأبادت ثقافات وصولا إلى اقتحام ابنه هولاكو بغداد وتدميرها عمرانيا ما كان له أثره اللاحق في إخراجها مؤقتا من خريطة التاريخ والجغرافيا.

«منغول» ضعيف مقارنة بتلك الأفلام والأشرطة التي صدرت عن جنكيزخان بصفته قاهر حضارات ومؤسس أكبر إمبراطورية في التاريخ الآسيوي. إلا أن «منغوليا» يتميز بتلك الإشارات اللافتة التي تتحدث عن طفولة وبيئة ومناخ وثقافة وقبيلة وعادات وتقاليد ونمط حياة وقساوة التعامل بين أبناء البشر. فالفليم البسيط في قصته والجميل في صوره ومشاهده والعنيف في قراءة ذاك الجانب المغيب من التاريخ المغولي أراد في النهاية الإشارة إلى دور تلك العناصر التي ساهمت في تكوين الشخصية الأسطورة العنيفة وتشكيل ذاك القائد العسكري الدموي في تعامله مع الآخر. وهذا بالضبط ما نجح «منغول» في تقديمه حين تعمد إدخال المشاهد إلى ثقافة أنتجتها بيئة مناخية قاسية ولم تتخلص منها إلا بعد ظهور جنكيزخان

العدد 2302 - الأربعاء 24 ديسمبر 2008م الموافق 25 ذي الحجة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً