لم تكن هنالك من شخصية قيادية إيرانية قد أثار وصولها جدلا ونقاشا واسعا على مختلف النطاقات والأصعدة مثلما أثار ذلك وصول عمدة طهران السابق والمحاضر الجامعي في هندسة الطرق بجامعة طهران محمود أحمدي نجاد إلى كرسي الرئاسة الإيرانية، هذه الشخصية بما عرفت به من كاريزما الزهد والتقشف والتزمت الديني ممثلة عن قضايا وشئون الفقراء الإيرانيين والمهمشين من ضحايا الاستقطابات التي خلفتها السياسات الليبرالية الاقتصادية المتبناة في عهود الرؤساء الإيرانيين رفسنجاني وخاتمي، هي أيضا لطالما جذبت من حولها جميع الأضواء سواء بمواقفها تجاه مختلف القضايا الداخلية في إيران أو القضايا الدولية الكبرى، وما حفلت به من تناقضات وأضداد جوهرية تبدو متصادمة في سيرتها غير المعلنة!
مثل تلك الشخصية المثيرة للجدل للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد تناولها بعمق واتساع كتاب قيّم صدر مؤخرا باللغة الإنجليزية تحت عنوان «أحمدي نجاد... التاريخ السري لزعيم إيران الراديكالي» وهو من تأليف الصحافي الإيراني المرموق كاسرا ناجي المقيم حاليا في لندن، والذي سبق أن عمل صحافيا في طهران لسنين طويلة وعمل مُراسلا لعدد من كبريات وسائل الإعلام الدولية كشبكة «سي إن إن» والـ «بي بي سي» و«الفايننشل تايمز» و«الغارديان» و«لوس أنجلس تايمز» و«الإيكونوميست» و«إبي سي»، ومثل هذا الكتاب اعتبره المفكر المعروف والمختص بشئون الشرق الأوسط فرد هاليداي بأنه «كتاب ممتاز وحيوي وحافل بالمعلومات»، وقد انتهيت مؤخرا من قراءة هذا الكتاب الذي يستحق أنْ يفجر عواصف من النقاش والتحاور الحقيقي بشأن واقع النظام الإيراني ومستقبله مع وصول محمود أحمدي نجاد الذي ارتبط اسمه بقوّة بالملف النووي الإيراني، وأحبذ أن أطرح في عدد من المقالات القادمة غيضا من فيض هذه المعلومات القيّمة التي استقاها الكاتب من الكثير من المصادر القريبة من نجاد نفسه كأصدقائه ومستشاريه، ومن الرئيس نجاد نفسه ومن القيادات الإيرانية الكبرى في التيارين المحافظ والإصلاحي وغيرهم ممن عمل على كثب مع الرئيس نجاد وعاصر ما أحدثه وصوله «المعجز» من تغييرات راديكالية تاريخية في الداخل الإيراني!
فمن بين ما أشار إليه المؤلّف في الكتاب هو عن دور نجاد الناشط حينها في الحركات الطلابية بالجامعات في أثناء ثورة الخميني، كما وذكر المؤلف أنّ انتماء الرئيس الإيراني أحمدي نجاد سرا إلى جماعة «الحجتيه» والتي تعمل وتكرس نفسها للتمهيد لخروج «الإمام الغائب» وتحضر ممارسة أي عمل سياسي أو تأسيس مجتمع إسلامي قبل خروج «الإمام الغائب»، هذا الانتماء قد شكّل أمامه تعارضا واضحا مع نهْج «الثورة الإسلامية» للخميني التي وقف معها نجاد في الوقت ذاته بقوّة منذ أن كان طالبا جامعيا، وبالتالي كانت هنالك معضلة انفصامية واضحة لم يتم فكها وخلعها إلاّ حينما قام الخميني بحضر هذه الجماعة في 1983م وإن كان لا يزال هنالك قول وإشاعات عن وجود انتماءات وأنشطة سرية لهذه الجماعة.
ويتناول الكتاب أيضا الجدل الواسع الذي أثير عالميا عقب انتخاب نجاد رئيسا وذلك بشأن مشاركة نجاد بصورة رئيسية في عملية احتجاز الرهائن الأميركيين في 1979م والتي استمرت 444 يوما، فيستعرض الكتاب شهادات الرهائن الأميركيين المتعددة والمختلفة التي تؤكّد ضلوع نجاد بصورة رئيسية في هذه العملية إلى جانب شهادات إيرانية من مصادر متعددة إلا أنّ الاستخبارات الأميركية (السي آي إيه) ومن خلال تحليل لصورة حديثة لنجاد وصورة للرجل الذي زعم أنه نجاد وهو يقتاد رهينة أميركية توصلت إلى بطلان أنْ تكون هذه الصورة هي للرئيس الإيراني الحالي، إلا أنّ المؤلف يستشهد في السياق ذاته بتناقض ادعاء نجاد بعدم مشاركته في احتجاز الرهائن مع ما نشرته حوله الصحيفة الأسبوعية «Yalesarat» الصادرة عن جماعة «أنصار حزب الله» الإيرانية المقرّبة من أحمدي نجاد وذلك في العام 2003 عقب تعيين نجاد عمدة لطهران، حيث ذكرت الصحيفة أنّ أحمدي نجاد شارك بصورة رئيسية مع الطلبة في احتجاز الرهائن الأميركيين، بل إنّ نجاد لطالما كان يتفاخر بدوره في تلك العملية، ومع ذلك ينكر نجاد هذا الدور علنا كما يتساءل المؤلّف حول ذلك!
ويستدل المؤلف إلى أنّ السبب والعامل الرئيسي وراء عملية احتجاز الرهائن الأميركيين في السفارة المسماة بـ «وكر الجواسيس» لم يكن إلاّ بغرض التصدّي للمنافسة القوية من قبل التيارات اليسارية التقدمية التي كانت صاحبة الصيت الأعلى في محاربة ومقاومة الإمبريالية وبالتالي الرغبة سياسيا لإظهار «التيار الإسلامي» في صورة المقاوم للإمبريالية على حساب هذه التيارات، حيث رأى بعض المتطرفين من رفاق نجاد أنّ «الشيطان الأكبر» هو الاتحاد السوفياتي أمّا «الشيطان الأصغر» فهو الولايات المتحدة الأميركية، إذ اعتبرت القوى اليسارية والتقدمية وغيرها من قوى متحررة هي العدو الرئيسي للثورة الإيرانية بعد خلع نظام الشاه، كما يدلل المؤلف على نماذج الكراهية والحقد التي كان يكنها نجاد وجماعته حينها إلى التيارات اليسارية وجميع التيارات المختلفة مع «خط الثورة» وإن كان لها جميعا دور مساهم في إسقاط نظام الشاه وكيف أنه شارك أيضا في «الثورة الثقافية» التي بحسب المؤلف قد أطلقت تيمنا بالنموذج الماوي الصيني وإن كانت اليسار والتقدميون والمستقلون هم ضحيتها الرئيسية في عمليات التطهير الشاملة للجامعات الإيرانية من الأساتذة والأكاديميين والطلاب الذين يشتبه في انتماءاتهم اليسارية والمتحررة وحتى التيارات الإسلامية المستقلة عن «الخط الإسلامي» للثورة، وقد تم حينها إغلاق الجامعات لـ 30 شهرا بدعم من الخميني، كما ويتناول الكتاب ذلك الجدل الواسع الذي أثير بقوة حول مشاركة نجاد شخصيا وإشرافه على عمليات إعدام جماعية واسعة النطاق في هذا المجال، كما وكان نجاد قد عمل مع إحدى تلك اللجان التي تم تشكيلها من قبل رجال الدين في قم لتطهير مناهج الجامعة في حقول «الإنسانيات» وغيرها مما يروه مخالفا لخط الإسلام أو «الثورة الإسلامية».
ويورد المؤلّف كيف تم اختيار نجاد؛ ليكون محافظا لمنطقة ماكو في أذربيجان الغربية أثناء الاضطرابات الداخلية الكبرى التي تسببت بها الحركات الانفصالية الكردية التي رأت خطر استهدافها من قبل حكومة الملالي المركزية في طهران إذ أعلن حينها الجهاد ضد الحركات الكردية سواء الماركسية أو تلك التي تمثل الأقلية الكردية السنية التي يقدر عدد أفرادها بـ 4 ملايين نسمة، حيث أنيطت بنجاد حينها مهمة العمل مع الحرس الثوري الإيراني لقمع عمليات التمرد وإخمادها، وقد كان يقوم نجاد حينها بمهمة نسج تحالف مضاد مع الشيعة التركمان الذين أكد لهم بأن الثورة تقف معهم، في حين وفي الجهة الأخرى حاول نجاد طمأنة الأكراد السنة وأخبرهم بأنّ «الثورة الإسلامية» مع جميع الإيرانيين وذلك حتى يتوصّل تكتيكيا إلى طرد التمرد الكردي المنظم إلى خارج الإقليم، إذ إن التلون الحربائي السياسي حسب مقتضيات الظروف المختلفة هي سمة «نجادية» بامتياز كما يشير إلى ذلك المؤلّف في موضع آخر سنتناوله لاحقا.
ويحتوي الكتاب عرضا لمعلومات تفصيلية تكشف عمق تلك العلاقة الوثيقة جدا التي نسجها أحمدي نجاد مع «الحرس الثوري» وميليشيات «الباسيج» وتميز بها عن غيره من النخبة القيادية السياسية في النظام الإيراني، وهي بالتالي ساهمت في إيصاله إلى كرسي الرئاسة الإيرانية كما سنتطرق إلى ذلك في مقال آخر، ويبيّن علاقة نجاد مع «الحرس الثوري» إبان الحرب العراقية الإيرانية وكيف شارك مع القوات الخاصة للحرس الثوري في أخطر عملية ناجحة حينما تغلغل «الحرس الثوري» بحوالي 180 كيلومترا داخل الحدود العراقية الشمالية نحو مصفاة كركوك لأجل تدميرها في سبيل قطع الإمدادات النفطية عن القوات العراقية، بالإضافة إلى ما يتمتع به أحمدي نجاد من علاقات عريقة مع «فيلق بدر» والعديد من المسئولين العراقيين حاليا، إذ كان المنشأ التاريخي لهذه العلاقات السياسية في قاعدة «رمضان» العسكرية.
ومن أبرز ما ذكره المؤلّف في كتابه هو الخيوط السرية لتعيين أحمدي نجاد في تسعينيات القرن الماضي كأوّل محافظ عام لإقليم «أردبيل» من قبل وزير الداخلية الإيراني علي محمد بشاراتي المصنف على أنه من الجناح المتطرف في تيار «المحافظين» والذي قدّمه إلى المسئولين في إقليم «أردبيل» كوجه شاب وأستاذ أكاديمي وطالب علم شرعي، إلا أنه وبحسب أحد المراقبين وهو جواد زنجاني رئيس مجلس أردبيل فإنّ المحافظ أحمدي نجاد كان في جولة لتطبيق عدد من الأجندة السياسية المخفية عبر استغلال نفوذه ومنصبه كمحافظ بهدف ترسيخ أقدام «المحافظين» والجناح اليميني المتطرف في إيران، ونسج شبكات تنظيمية واسعة ضد الخصوم «الإصلاحيين» بشتى الطرق الماكيافيلية التي لطخت سمعته وسببت امتعاضا كبيرا تجاهه، حيث عمل نجاد حينها على تسخير كافة سلطاته وصلاحياته في إقليم «أردبيل» في سبيل دعم الحملة الرئاسية الانتخابية لرئيس البرلمان الإيراني ناطق نوري، حيث تم نشر «البوسترات» الإعلانية لنوري في المؤسسات الرسمية ومارس نجاد ضغوطا على ستة من أصل سبعة أعضاء برلمانيين عن أردبيل في سبيل القيام بحملة شعبية لدعم ناطق نوري في الانتخابات الرئاسية، وعمل على تسخير أجواء المساجد حينها وغيرها من منابر في سبيل التحذير من ضعف إيران أمام الاستكبار الأميركي وضرورة أن تستعد إيران لمواجهة أميركا، مما يعني مضمونا التخلص من الإصلاحيين ودعم المحافظين!
ويروي المؤلّف كيف استغل نجاد سياسة الرئيس الإيراني الأسبق رفسنجاني حينما قام الأخير بتشجيع المؤسسات الحكومية حيث كانت البلديات الإقليمية تقوم بالاستعانة بمنظمة تقدم خدمات تعمل على زيادة دخل هذه المؤسسات، فعمد حينها نجاد إلى الاستعانة بإحدى تلك المنظمات للقيام ببيع النفط المكرر إلى أذربيجان المجاورة وبالتالي تحويل العوائد المليونية من بيع النفط المكرر إلى صندوق الحملة الانتخابية لناطق نوري، وهو ما أثار استياء كبيرا داخل إيران، ولا زال ملف هذه القضية مفتوحا لدى القضاء رغم وصول نجاد إلى كرسي الرئاسة الإيرانية، ولكن ذهبت جميع جهود نجاد حينها سدى حينما انتصر محمد خاتمي على ناطق نوري في الانتخابات الرئاسية، ومازالت هذه القضية التي تورّط بها نجاد حينما كان محافظا لأردبيل تلقي بظلالها على سمعته داخل إيران حيث قام أحد أصدقاء نجاد النافذين وهو أمين عام مجلس صيانة الدستور آية الله جنتي بالموافقة على ترشيح نجاد للانتخابات إلا أنه جوبه برفض واحتجاج من قبل وزارة الاستخبارات الإيرانية التي أرسلت ملفا مفصلا يثبت تورط نجاد في صفقات المقايضة النفطية لتمويل حملة ناطق نوري الانتخابية في 1996 وذلك حينما كان نجاد محافظا لأردبيل إلا أنّ المجلس برئاسة جنتي أخبر المخابرات بأنه نظر في القضية ولم يجد هنالك أية حقيقة في هذا الإدعاء!
إقرأ أيضا لـ "خالد المطوع"العدد 2110 - الأحد 15 يونيو 2008م الموافق 10 جمادى الآخرة 1429هـ