بعد حدث اتفاق الدوحة اللبناني الشهير, تفاعلت المنطقة مجددا وبشكل سلس وليّن ومرن مع معاناتها المفروضة عليها بسبب موازين القوى الدولية االمجحفة والمختلة لصالح أعدائها الذين يمعنون في احتلال أجزاء واسعة من أراضيها فيما يستمرون في الضغط عليها من أجل تقديم المزيد من التنازلات, فقامت بترتيب ندوة موسّعة للحوار الداخلي - أو الإسلامي الإسلامي كما يطلق عليه - بين أطراف العالم الإسلامي وأطيافه المختلفة في مقدّمة لإطلاق حوار موسّع مع «الآخر» البعيد.

فكانت ندوة مكّة المكرمة التي دعت إليها رابطة العالم الإسلامي بدعم واضح وصريح من القيادة السعودية وعاهلها الذي يبحث كما يؤكّد المطلعون عن دور ريادي في إصلاح ذات البين من جهة وتهدئة الأجواء الدولية والاقليمية من جهة أخرى لما فيه مصلحة الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي.

وإذ تفاءل الكثيرون بفكرة تفعيل مبدأ الحوار بين أطراف البيت الإسلامي الواحد أوّلا وتجاوب الكبار من الوزن الثقيل في هذا الحوار ومن كلّ البلدان والأطياف والطوائف والمذاهب والتيارات والمدارس الفكرية, إلا أنه ورغم ذلك كان ثمة مايقلق في أكناف وثنايا هذا الحراك.

فقد كان قد سبقه هجوم كاسح من قبل فئة متطرفة ومتشددة معلومة الحال ضد طائفة كبيرة ومن الوزن الثقيل من المسلمين اتهمتها بشتى التهم التي لا تليق إلاّ باصحابها ممن اعتادوا تكفير وتفسيق كلّ مَنْ عداهم كما يفعل رأس الحربة في سياق مدرسة الحروب الاستباقية منذ نحو ثماني سنوات والذي اقترب رحيله من المسرح الدولي بعد أنْ خسر الدنيا والآخرة.

هذا بالإضافة إلى أنه وفي الوقت نفسه الذي يخرج من أكنافنا وثنايا مجتمعاتنا مثل هذا النداء السامي فإننا لانزال نشهد على الجهة الأخرى من المشهد الدولي وتحديدا من جانب مَنْ يتحامل علينا ويتهمنا برفض أساليب الحوار والتعايش السلمي, ليس فقط إمعانا في نكران وجودنا كقوّة فاعلة في المعادلة الدولية بل ويُمارس سياسة استئصالية عن طريق الإصرار على استمرار حروب الإبادة المنظمة والقائمة فعلا على أكثر من ساحة من ساحات الوجود العربي والمسلم, بل والتهديد بأخرى جديدة اذا ما رفضنا الإملاءات التعسفية والأحادية.

ومع ذلك نقول: أن ينطلق نداء متجدد من جانب المسلمين للحوار مع «الآخر» ومن جوار بيت الله الحرام هذه المرة فيذكرنا بنداء نبينا ورسول الرحمة للعالمين بالدعوة الأولى بالجدال بالتي هي أحسن, ليس فقط أمر محمود وسنة كونية ينبغي أن يُثاب عليها كلّ من دعا ويدعو اليها, بل هو من نوع الواجب العيني المفروض على كلّ مسلم ومسلمة في هذه اللحظة العصيبة التي يمرّ فيها المسلمون.

لكن الحوار هذا لا ينبغي ولا يجوز أن يتحوّل الى ذريعة بيد أحد؛ أي أحد لإيهام العالم وتحديدا المجتمع الغربي بأنّ المسلمين على استعداد للتخلي عن أي من مطالبهم المشروعة في إيجاد علاقات سوية ومتكافئة مع الآخر مبنية على الاحترام المتقابل, او استعدادهم للتخلي عن حقوقهم الشرعية والقانونية في الأرض والموارد التي ارتكب «الآخر» ولايزال يرتكب عملية اغتصابها ونهبها وبشكل من اشكال الجريمة المنظمة لم يشهد لها العالم نظيرا ولاسيما عندما يتعلّق الأمر بفلسطين ذلك القلب الدامي والنازف من العالم الإسلامي منذ ما يقارب المئة عام او يزيد.

نعم نقول بهذا أوّلا لأنّ الحوار لايسقط حقا لا بسبب تقادم الأحداث والأزمان ولا بسبب إرادة الحوار, ذلك لأنّ إرادة الحوار هنا إنما هي دعوة لحل التخاصمات والاختلافات والنزاعات بالطرق السلمية لا بالطرق العنفية، الأمر الذي يتطلب من «الآخر» بالنسبة إلينا والمعني هنا بشكل خاص في دعوة الحوار من قبلنا, الإقرار بجريمته ومن ثم الإذعان بضرورة إعادة الحقوق إلى أهلها بالتي هي أحسن, بدلا من تحميل العالم كلّ العالم أكلافا اضافية, بسبب إمعانه في الجريمة وهو ما أنتج ولا يزال مقاومة وإصرارا على استرداد الحقوق مهما تكن الأثمان ذلك لأننا أمة لا تنام على شهدائها ولا على حقوقها المغتصبة ولا على ممارسات الجريمة المنظمة لأعدائها ولو اقتضى الأمر استمرار الكفاح لألف عام.

وثانيا لأنّ الحوار إنما هو جزء أساسي من قيمنا ومبادئنا الثابتة التي لا تبدلها عوادي الأيام ولا مصائب الدهر أو ظلم «الآخر» أو إجحافه نعم, لكن الذي علمنا الحوار وأمرنا به علمنا الجهاد والمقاومة أيضا ومقارعة الظالم وعدم السكوت أمام الجور؛ لأننا لو فعلنا غير ذلك سنتحوّل إلى «شيطان أخرس» والشيطان الأخرس لايتقن الحوار ولايُليق به أصلا أن يتقدّم قافلة المحاورينَ اويتحدّث باسمهم.

والحوار ثالثا لا ينبغي ولا يجوز أن يتحوّل الى محمل للبعض؛ ليتقدّم من خلاله بشهادة حسن سلوك إلى المجتمع الدولي الظالم والمتعجرف والأحادي النزعة ولاسيما الطرف الأميركي المتبجح منه, ولا هو عمل من نوع تقديم أوراق اعتماد لـ «سرائيل» التي غدت وكأنها البوابة التي منها فقط يدخل المعتمدة أوراقه ومنها يخرج الذي ترفض أوراق اعتماده.

وحاشا للمسلمين عموما والعرب منهم خصوصا أنْ يقبلوا ذلك.

وعودا على بدء نقول نعم للحوار مع «الآخر» ولاسيما عندما يخرج مثل هذا النداء السامي من مكّة المكرمة وبإجماع المسلمين وهو ما حصل فعلا في الأسبوع الماضي وهو أمر نجلّه ونحميه برموش عيوننا ونفتخر به ونرفع رأسنا به وقد شاركنا به ونعتبره فرصة ذهبية «للآخر» الذي لايزال هو مَنْ يرفض الحوار وليس نحن كما يريد البعض من أبناء جلدتنا أنْ يصوّر ومعهم قسم واسع من ذاك «الآخر» الذي يريد أن يؤاخذنا بجريرة عنف و»إرهاب» هما من صنعه ونتاجه إن كان فعلا عنف أعمى وإرهاب, فيما هو من مبادئنا وقيمنا الثابتة وغير القابلة للتصرف إن كان من نوع المقاومة والدفاع وهو ما نفتخر به وبالانتماء إليه واعتماده نهجا للعزّة والافتخار إلى قيام الساعة.

باختصار شديد نعم لحوار متكافئ ولا وألف لا لحوار استلحاقي.

ونعم لحوار أمرنا به رسولنا الكريم بمثابة أوراق اعتماد نقدّمها لله الواحد الأحد الفرد الصمد ربّ العباد والبلاد؛ لنيل الرضا والثواب, وليس بمثابة أوراق اعتماد نقدّمها لربّ الشهوات والأطماع والاستئثار ونهب الثروات وأرباب الحروب تحت الضغط والإرهاب لنيل مقعد في معادلة الظلم والجور الدولية.