العدد 2109 - السبت 14 يونيو 2008م الموافق 09 جمادى الآخرة 1429هـ

إلى مَنْ يهمّه الأمر...

البحرين على شفا حفرة من النار... فمَنْ ينقذنا؟

يونيو من العام 2008، الطقس في البحرين كعادته؛ مشحون بغبار الصيف التي تعوّدت عليها رئات البحرينيين وأجسادهم المتعبة. حافلات السفر والطائرات تتزايد في مطار البحرين إذ ستبدأ موسما جديدا؛ لتعلن عن هدنة «سياحية» لهذا الشعب المُدمن على «السياسة».

الصيف هنا نقمة باطنها رحمة؛ ستهدأ خلال الأيام القليلة المقبلة الصفحات الأولى في صحافتنا المحلية من زخم صُراخ نواب جمعية الوفاق الوطني الإسلامية من جهة، وصُراخ نواب سائر الجمعيات السياسية الأخرى من جهة أخرى. وعلى الرغم من هذا الهدوء النسبي في الشارع لم يات إلاّ بعد فقد إثنين، بيد أنّ جدران المنازل في القرى لاتزال تعج بالكتابات بعد أن ارتاحت لثلاث سنوات من زيارة فرشاة الطلاء اليومية، لا يزال أيضا، المكتب الإعلامي للنائب السعيدي يصدر بياناته كالعادة، ويتجاهلها الكثيرون لكن البعض لايزال يعتبرها نافعة لإشعال الفتنة!.

هذا الهدوء تتخلله أزمة بعثات مرتقبة تعوّد عليها طلبة البحرين حتى ألفوها، ستضاف هذه الأزمة لملف التمييز الطائفي وتنتهي بهدوء. هناك أيضا، ساحل جديد - ساحل كرباباد والسنابس - يتعرّض للاغتيال وهو أيضا حدث لا يبعث على الاستغراب فـ «لا يضر الشاة سلخُها بعد ذبحها».

هدوء لا يعني ألبتة أنْ يطمئن الناس في بيوتهم، فالذي سيأتي بعد هذا الهدوء المسكون بالجمر لا يبدو سعيدا. لا أحد يملك القدرة على أنْ يتنبأ بما قد يجري على هذه الجزيرة الصغيرة حين تعود قوافل المسافرين لبيوتاتها!، ولأنّ الأمر كذلك، يبدو أنّ سخونة هذا الصيف لن تنتهي بعد عودة الغائبين، بل ستبدأ!.

الوفاق و»لو .. الشيطان»

ستبدأ هذه القراءة عند سؤال مركزي بسيط «ماذا بعد كلّ هذا؟!»، ويرتكز هذا السؤال على محاولة قراءة مصير مجمل العملية السياسية في البحرين. وعلى الرغم من أننا لن ننتهي عند نتائج نهائية نعلن من ورائها عن مصير هذه العملية السياسية بالإعلان عن نجاحها أو فشلها، إلا أننا نتطلع بطريقة أو باخرى، إلى أنْ نضع بعض النقاط على الحروف بوضوح وصراحة لا تُنقِصها المجاملات. الهدف من هذه الصراحة أيضا، أنْ يلتفت اولئك الذين يهمّهم مستقبل هذه العملية - إنْ كان هناك مَنْ يهتم - إلى ما آلت إليه من فوضى، وما قد تصل له من نتائج ليست في الحسبان.

ماذا لو أنّ المعارضة ممثلة في نوّاب جمعية الوفاق الوطني الإسلامية فشلت فيما تبقى لها من عمر داخل المجلس النيابي في أنْ تقنع قواعدها الشعبية بجدوى ذلك القرار الذي انتهى إليه مجلس شوراها العام 2006 بالمشاركة في الانتخابات النيابية بعد مقاطعته؟، ماذا أيضا، لو أسرعت مكنة الوفاق النيابية في اتخاذ قرارها بالانسحاب من المجلس النيابي، إنْ هي أخفقت في تحقيق ما تعقد عليه آمالها الأخيرة فيما يتعلّق بالموازنة العامّة الجديدة للدولة؟. ما الذي سيحدث؟، وما هي المنافذ المدنية لضمان استمرار العملية السياسية في البحرين إنْ كانت المعارضة جرّبت الخيارين (المشاركة/ المقاطعة) من دون جدوى؟.

إنْ كان للعملية السياسية في البحرين منحنيان اثنان عبر «المقاطعة» أو «المشاركة»، فإنّ عودة الوفاق - وجمعيات المعارضة كافة - للخيار الأوّل لن تكون مماثلة لما كان عليه الوضع السياسي في العام 2002 حين أقرت الجمعيات المعارضة خيار المعارضة في موقفها تجاه إقرار دستور 2002. لقد تغيّرت عدّة أشياء ما بين العام 2002 والعام 2008، لم يكن في العام 2002 ثمة تقرير مثير للجدل يعبث بأذهان الناس في صورة الدولة التي تُحاول القضاء على طائفة بأكملها. لم يكن الناس حينها يملئون جدران منازلهم والطرق العامّة بالكتابات والاحتجاجات التي عادت اليوم بلغة انتقامية وأكثر عدائية. لم تكن الطائفة الشيعية بصفتها أكبر فصائل المعارضة تحديدا، تعتقد بأنها مستهدفة من قبل الدولة عبر التقرير المُثير للجدل والعديد من السياسات التمييزية الطائفية في وزارات الدولة ومؤسساتها والتي لم تنته بعد وتباطأت الدولة في علاجها. لم تكن حركة «حق» الخارجة عن حاضنة قانون الدولة وسلطتها، موجودة أو فاعلة كخيار بديل للوفاق والجمعيات السياسية كافة. والأهم من ذلك، كانت السجون البحرينية في العام 2002 خاوية وليست كما تبدو الآنَ. بالطبع، تستطيع الدولة أنْ ترفض اعتبار الموقوفين اليوم في السجون البحرينية معتقلين سياسيين، وهو حقها. لكنها أيضا، لا تستطيع أنْ تقنع الناس بذلك مجبرينَ، إنْ كانوا قد فقدوا أهم مفاصل تمام وصحية العلاقة بين الدولة والمجتمع، وهي «الثقة» في أنْ تكون الدولة ممثلة لهم أو تكون أجهزتها الأمنية ملتزمة بما أقرّه ميثاق العمل الوطني للمواطن من ضمانات وحقوق.

إلى أين إذا، ستتجّه بوصلة العملية السياسية إنْ خرجت الوفاق من تجربتها النيابية خالية اليدين؟، لا يملك الوفاقيون رموزا دينية( قادة) نوابا إجابة تامّة أو واضحة لهذا السؤال الصعب. ولا تدرك الدولة خطورة أنْ تكون المعارضة ممثلة بالجمعيات السياسية عاجزة عن الإجابة على مثل هذا السؤال الذي يبدو أنّ الدولة تصرّ على أنْ تصل المعارضة له مع شارعها في لحظة خيارات صعبة ومُؤلمة للجميع. وخلاف أنْ تكون «حق» بخطابها السياسي ومرجعياتها السياسية الحاضنة الرئيسية لشارع المعارضة بأكمله، فإنّ الجمعيات السياسية ستكون مُجبرة على أن تكون تشكيلا سياسيا جديدا لا أحد يستطيع التنبؤ به أو تحديد ماهيته.

إذا، يبدو أنّ الخيار الوحيد الذي يبدو مُتاحا ومنطقيا للوفاق وشقيقاتها إنْ فشلت التجربة النيابية، هو أنْ تلجأ - قريبا جدا على ما يبدو - لتصعيد مواقفها السياسية تجاه الدولة. أوّلا، حتى تكون هذه الجمعيات المُعارضة مع المستوى التصاعدي للعملية السياسية بمجملها من جهة، وحتى تضمن ألا تكون حركة حق الموئل النهائي لقواعدها الشعبية ثانيا.

الانفلات الأمني حينها سيكون سهلا، والدولة التي عوّدتنا على أن تُصعِّدََ من مواقفها مع كلّ تصعيد للمعارضة ستنزلق في معادلة العنف المُضاد والأشد مباشرة.

ليس المقصود من هذه الفرضية أنْ لا خيار سوى العنف، لكن مَنْ يستطيع أن يضمن الشارع الذي يبدو أنه أصبح أصعب وأكثر تعقيدا عمّا كان عليه في التسعينيات.

تستطيع الوفاق والجمعيات السياسية أنْ تعود للخيار الأوّل وأنْ تبدأ في إعادة ترتيب أوراقها للمطالبة وبالطرق السلمية في حوار وطني جديد إنْ فشلت آخر آمال الشارع في المرور من بوابة هذا المجلس النيابي بتركيبته الحالية، لكن ذلك كلّه، يحتاج إلى أنْ يكون شارع المعارضة مُؤمنا بضرورة تغليب هذا الخيار وهو ما لا يبدو ممكنا خصوصا أنّ الشارع بات ينساق بسرعة للخطابات التأزيمية التي لا تعتقد بوجود حل ممكن عبر العملية السياسية بشكلها الحالي، وهو في المحصلة ما يجعل الخيارات صعبة ومعقدة على الوفاقيين والجمعيات السياسية في المعارضة ككل.

في الجهة المقابلة، وكما يذهب رئيس برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا RUSI دانييل نييب في مقالته «هل يمكن أنْ تكون الأزمات ضرورة للديمقراطية؟»، يمكننا أنْ نعتبر مجمل هذه الازمة التي تبدو نتائجها مُخيفة، بارقة أمل نحو حل وشيك أو حوار وطني يضمن تصحيح مسارات المشروع الإصلاحي ويعيده من جديد للطريق الأصوب.

دانييل الذي يؤكّد أن الأزمات هي في حد ذاتها ضرورة ديمقراطية، يثمن تلك الأنواع من الحلول التي تنشأ عبر إحساس جميع الأطراف بأنّ آفاق المماطلة في إيجاد حلول جذرية باتت قصيرة وغير مجدية، وأنّ قرارات حاسمة تنتهي بحلحلة الملفات العالقة باتت ضرورة وطنية من المستوى الأوّل. وفي هذا السياق تحديدا، نجد أنّ العديد من الأطراف السياسية في البحرين قد دعت بالفعل مُؤخرا، لحوار وطني جديد على مختلف الثنائيات القائمة بهدف الوصول لبيئة سياسية جديدة تكون قادرة على احتضان مجمل الخلاف الوطني داخل البحرين. وقد يكون هذا الحوار الوطني - إذا ما بادرت الدولة للقبول به والمشاركة فيه - الأمل الوحيد المتبقي أمام الوفاق والجمعيات السياسية المُعارضة في خضم هذا الوضع المضطرب.

أوّل الحكاية

يمكننا تصوير الحركة الإصلاحية في البحرين باعتبارها إحدى الحركات الإصلاحية الوطنية التي نشأت بالتزامن مع الإعلان عن المشروع الغربي للإصلاح الذي أعلن عنه رسميا في ديسمبر / كانون الثاني من العام 2000 من الولايات المتحدة تحديدا. وعلى أنّ الإصلاح السياسي في البحرين بدأ عبر طرح ميثاق العمل الوطني العام 2000 والتصويت عليه، إلاّ أنه سُرعان ما تم تدويله باعتباره أحد النماذج الإصلاحية العربية التي زامنت موجة الدمقرطة التي رعتها الولايات المتحدة مطلع العام 2002.

البعض صوّر هذا التوجّه السياسي العربي الذي ارتكز على إقرار إصلاحات دستورية وضمان وتأكيد الحريات الخاصة والعامّة، بالموجة التي عبّر عنها أحد رؤساء الدول العربية حين قال «لنحلق رؤوسنا قبل أنْ يحلقوا لنا»، فكانت الديمقراطية في الدول العربية مشروعات أرغمت الحكومات العربية عليها ولم تذهب لها عن رغبة حقيقية.

البحرين قبل العملية الإصلاحية كانت تعاني الكثير من المشكلات التي كانت تعصف بالعلاقة القائمة آنذاك بين الدولة والمجتمع، وعلى الرغم من خفوت المظاهر المطلبية التسعينية أواخر التسعينيات إلا أنّ أحدا لم يُعلن انتهاء الحركة المطلبية وكانت حركة أحرار البحرين في عاصمة الضباب لندن والمعارضة الإسلامية في العواصم الأخرى، لاتزال نشطة وفاعلة قبالة أجهزة الأمن الحكومية التي كانت تترقب الشارع وتستعد لعصيانه في أية لحظة.

لقد استطاع جلالة الملك مع بدء المشروع الإصلاحي حلحلة عدد من القضايا والملفات التي كانت «وجع» الشارع البحريني بالتحديد، وذلك عبر إطلاق المعتقلين السياسيين وإنهاء قانون أمن الدولة وحل الجهاز الأمني القائم عليه، وكذلك إعادة المبعدين وتعويض بعضهم، والأهم من ذلك الشروع في ميثاق العمل الوطني الذي استطاع وبامتياز، إعادة الآمال الشعبية في أنْ يكون للبحرين والبحرينيين مع مطلع الألفية الجديدة، واقع سياسي واقتصادي واجتماعي مختلف ينهي عذابات أبناء هذا الوطن لأكثر من ثلاثين عاما.

لا شك أنّ القرارات الملكية التي رافقت الإعلان عن ميثاق العمل الوطني كان لها دور كبير وواضح في أن يتجّه الناس صوب الإيمان بصدق توجه الدولة في الإصلاح السياسي وتحسين اوضاع الناس ومستوياتهم المعيشية، وكانت المكرمات الملكية في هذا السياق أيضا، المُكمِل الاقتصادي الذي زامن التغيير السياسي المرتقب، وهو ما جعل الناس على اختلاف توجهاتهم يسيرون في هذا الإتجاه بتسارع ملحوظ ولافت.

الممانعات التي اطلقتها بعض رموز المعارضة في لندن والمطالبات التي اشترطتها للقبول بميثاق العمل الوطني لم تستطع الصمود أمام موجة التفاؤل التي اجتاحت الناس والقواعد الشعبية خصوصا بعد دعم الرموز العلمائية للميثاق ولمشروع الإصلاح السياسي لجلالة الملك. وعلى ذلك، ولم تستطع حينها رموز المعارضة أنْ تقف في وجه التيار الشعبي الذي حقق نسبة تصويت تاريخية في قبوله بميثاق العمل الوطني ومجمل المشروع الإصلاحي، الذي كان من المفترض أنْ يكون البوابة التي ستعود بالبحرين للدستور الحلم وهو (دستور العام 1973).

2002 دستور جديد وازمة جديدة

لقد عالج المشروع الإصلاحي مع بدء الإعلان عنه، ملفات الوجع الشعبي في البحرين كما ذكرت، لكنه في الوقت نفسه، لم يضع أو يحدد الآليات التي سيقوم باتباعها لتطوير هذا الإصلاح ولم يحدد آفاقه وتطلعاته أو حتى سقفه الذي سيصل له، والأهم من ذلك، أنه لم يضع للفاعلين السياسيين أجندة إصلاحية إجرائية حيال الكثير من الملفات - على رأسها التمييز الطائفي ومكافحة الفساد المالي في أجهزة الدولة - التي اكتفى المشروع الإصلاحي بحملها على ظهره في عصر الدولة الجديدة.

مرّت الأحداث بسرعة، وتشكّلت الجمعيات السياسية وتوالت بعض المكرمات الملكية التي عززت من ثقة الناس في المشروع الإصلاحي. ووصولا للعام 2002 والإعلان عن دستور 2002 خلاف ما كانت جميع الفعاليات السياسية تتوقع بالعودة لدستور 1973، كان للمشروع الإصلاحي أنْ يتعرض لاختبار صعب صنفته بعض أوساط المعارضة بالارتداد عن المشروع الإصلاحي فيما اعتبره آخرون نتيجة طبيعية؛ إذ لم يكن ميثاق العمل الوطني قد نص صراحة على اشتراط العودة لدستور العام 1973.

الجمعيات السياسية المعارضة آنذاك، أعلنت موقفها الرافض لدستور 2002 وتبعا لذلك، علّقت الجمعيات السياسية المعارضة مشاركتها في الانتخابات النيابية الأولى بعد المشروع الإصلاحي وقامت بتأسيس الأمانة العامّة الدستورية التي عملت باسم التجمّع السداسي على مواجهة الدستور الجديد؛ بوصفه انحرافا عن مشروع الإصلاح السياسي في البحرين في تطور لم يكن متوقعا في حسابات الجميع، خصوصا فيما يتعلّق بالإبقاء على مجلس الشورى المعيّن وتقليص صلاحيات مجلس النواب الذي يضم ممثلي الشعب. أمّا ما زاد من الأمر سوءا، هي تداعيات الإعلان عن توزيع الدوائر الانتخابية التي كانت - ولا تزال - بحسب الكثير من المنظمات الحقوقية المحلية والدولية تمثل خرقا وصورة تمييزية تستند على حسابات طائفية.

وعلى الرغم من أنّ الجمعيات السياسية في المعارضة قد حرّكت مكناتها الدعائية محليا ودوليا لتحقيق أهدافها في مقاومة هذا الدستور، إلا انها ولأسباب عدّة أهمها الإشادات الدولية بالمشروع الإصلاحي واعتباره نقلة نوعية للانظمة السياسية في الخليج، لم تستطع عرقلة الدستور الجديد، وكان قرار مقاطعتها للانتخابات محل انتقاد الكثير من الفعاليات السياسية داخل البحرين وخارجها على حد سواء والتي أكدت أنّ المعارضة تستطيع أن تقوم بتعديل الدستور من داخل المجلس النيابي وأنّ مقاطعتها للمجلس للانتخابات النيابية كان خيارا خاطئا بكلّ المقاييس.

قانون الجمعيات السياسية... انقسام المعارضة

كان التغيير الدستوري باعتماد دستور 2002 الحاضنة التي ستؤسس لتاريخ البحرين الحديث المطرقة الأولى في رأس المعارضة، لكنها على الرغم من ذلك، استطاعت، أنْ تتجاوز هذه الصفعة بطريقة أو بأخرى، واستمرت عبر تحالف الجمعيات السياسية من جهة، وبمساندة المؤسسات الحقوقية من جهة أخرى، أنْ تشرع في توضيح مواقفها الدستورية والسياسية حيال الكثير من الملفات التي لم يطرح المشروع الإصلاحي - ولايزال - حلولا لها.

المطرقة الثانية في رأس المعارضة والتي كانت أشد وأكثر تأثيرا، كانت نتاج قانون الجمعيات السياسية الذي أقرّه المجلس النيابي خلال فترة مقاطعة الجمعيات السياسية له وقبلت به الوفاق وشقيقاتها عبر ما أسمته بخيار «القبول والتحدّي» أنذاك، وهو ما انتهى بأولى الخصومات الداخلية داخل جسد المعارضة عامّة والوفاق تحديدا.

نشأت في هذه الظروف وعبر هذه الخصومة، حركة «حق» التي لم تكن ظروف تأسيسها جراء خصومة مع الدولة بقدر ما كانت خصومة مع المعارضة والتحالف الرباعي، فالأمين العام لحركة حق الناشط السياسي حسن مشيمع لم ينشق حين أقرت الحكومة قانون الجمعيات السياسية أو حين مرره النواب أنذاك، بل انشق حين وافقت الجمعيات السياسية - وعلى رأسها جمعية الوفاق التي كان مشيمع الرجل الثاني فيها بعد الشيخ علي سلمان- على الانضمام له.

نستطيع قراءة «حق» في ظروف نشأتها الأولى وتكيّفها السياسي من عدّة أبعاد، منها: بعد المقاربة النفسية: ويتضمن هذا البعد المسألة الكاريزمية في الناشطين السياسيين: حسن مشيمع او عبدالجليل السنقيس، وفي هذا النموذج حديث قد يجرّ علينا اختلافات التأويل وقراءة الكاريزمات، فنتجنبه حفاظا على مهنية خطابنا الإعلامي، فنحن لا نحاسب «النيّات».

أمّا البعد الثاني: فهو بعد المقاربة الاجتماعية: ويتضمن اعتبار «حق» انشقاقا صراعيا داخل منظومة المعارضة أو مجتمعها. وهو ما يجرنا للحديث عن موضوع كبير قد نتعرّض له في ملف قادم بالتفصيل. ويبقى البعد الأخير، وهو بعد المقاربة المعرفية؛ ويتضمن هذا البعد محاولة فهمنا لفلسفة «حق» والمبادئ التي تعتمد عليها كأساس لتحركها السياسي.

لم تستطع «حركة حق» أن تخرج بخطاب سياسي ذي قواعد معرفية واضحة ومقبولة الأهداف وبارزة المعالم، وكانت أكثر التعليقات - الانتقادات إنْ صح التعبير - التي تعرضت لها الحركة مع نشأتها الأولى تتمحور عن أنها حركة «بلا أفق أو مستقبل».

بدأت حق لعبتها السياسية بمنهْج خطابي «دفاعي»، وهذا ما جعلها عاجزة عن أنْ تعطي لنفسها المركزية المعرفية التي نستطيع أنْ نفهمها من خلالها. وعليه، كانت «حق» ولا تزال؛ حالة من «اللامعنى» إلا في اعتبارها انشقاقا اجتماعيا على جسد المعارضة ومجتمعها، أو لعلّها حالة من «المراهقة السياسية»، كما تصفها بعض الأوساط الوفاقية تحديدا.

صحيح أن فرص «حق» تبدو جيّدة في استقطاب شارع المعارضة في حال أخفقت المعارضة ممثلة بنواب جمعية الوفاق والنائب المستقل عبدالعزيز أبل في تجربتها داخل المجلس النيابي، إذ ما تخسره المعارضة من رصيد شعبي داخل البرلمان يكون مصدر تغذية مباشر لـ «حق»، إلا انها ووفق نظرية أولسن في مؤلفه السياسي «العقل الجماعي» نجدها تُعاني اليوم من قلّة جماهيريتها، السبب - كما يقترح أولسن - هو أنها لا تحقق لأيّ عضو مرشح للانتساب أي مصلحة شخصية واضحة. هذه الضبابية فرضت على حق أنْ تكون في موقف العائم في إسفنج سياسي لا فائدة منه في المشهد السياسي البحريني.

ما بعد التقرير المثير للجدل وما قبله

إذا ما كان أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول إحدى الفواصل الزمنية في التاريخ العالمي، فإنّ للتقرير المثير للجدل الذي خرج به المستشار السابق للحكومة البحرنيية صلاح البندر الصفة نفسها بالنسبة للبحرينيين. وعليه، لقد تغيّرت الخريطة السياسية في البحرين برمتها بعد خروج هذا المستشار بتقريره الذي تحدّث عن مشروع سياسي كبير كان يهدف إلى تقويض وتحجيم الطائفة الشيعية في البحرين قبالة مشروع النهوض بالطائفة السنية. وإذا كان الوضع الإقليمي في العراق ولبنان قد ألقى بظلاله طائفيا على البحرين فإنّ مرتكز هذا الإسقاط الطائفي كان ذلك التقرير تحديدا.

لقد أدّى التقرير والتعامل السلبي للحكومة مع ما روّج فيه، إلى تعزيز الهوّة بين المعارضة - الشيعية خصوصا - والدولة، الأكثر من ذلك أنه أدّى إلى انحسار أو انعدام الثقة بين الدولة وشريحة كبيرة من المجتمع، وهو ما تسبب في عودة الكثير من المظاهر السياسية والخطابية التي كانت قد انتهت مع المشروع الإصلاحي لجلالة الملك. وعلى الرغم من أنّ القضاء البحريني، قد أنهى هذا الملف بالحكم غيابيا في هذه القضية على البندر بالسجن إلا أنه لا يزال يمنع الصحافة المحلية من تناول هذا الملف بطريقة أو بأخرى.

لقد كان لما عرف بتقرير «البندر» أنْ يلقي بالكثير من التبعات السلبية على مجمل العملية السياسية في البحرين، ولا تزال تبعات هذا الملف تزداد كلّ يوم، ولا تزال الدولة في هذا السياق تغض طرفها غير آبهة بتلك التأثيرات السلبية له.

الدولة وأصدقاؤها الجدد

إنّ العودة للتسلسل الزمني حيث توقفنا قبل الإسهاب في قراءة حركة حق وتبعات ظهور التقرير المثير للجدل، تضطرنا للتعليق على ما حدث في العملية السياسية في جانب الدولة مع إعلان الوفاق والجمعيات السياسية في المعارصة المشاركة في الانتخابات النيابية الأخيرة 2006.

إنْ كان لنا التسليم بأنّ البحرين دولة «بيروقراطية»، فإنها - أي الدولة البيروقراطية - ليست أكثر من دولة إقطاعية نزحت نحو المزيد من التنظيم في هياكلها وبناها الإدارية. وهي، بالتالي، تنتهي إلى حد أن تكون الدولة الإقطاعية نفسها بشكل أكثر تعقيدا. هكذا يقرأ «موسكا» الدولة البيروقراطية فيما ينزاح إلى توصيف الدولة الإقطاعية بأنها صفة مميزة للمجتمعات في مستويات «أكثر بدائية» من التمدن الحضري.

تمتلك هذه الثنائية من القوّة ما يكفي لأنْ تختزل مجمل القراءات لـ «الدولة» في البحرين على اختلاف مشاربها وتقاطع المرجعيات المؤسسة لهذه القراءات التحليلية وفق المكونات الأيديولوجية لشتى القوى السياسية في البحرين.

ما يجب أنْ يتم إدراكه قبل التأسيس لهذه المركزية هو حقيقة لابدّ من التنبه إليها، وتعريفها بدقة، والاشتغال من خلالها في إعادة رسم خريطة العملية السياسية في البحرين. وأزعم فيما أزعم، أنّ لا أحد أولى هذه الحقيقة ما تحتاج إليه من تحليل وقراءة. لقد رافق توجه الدولة للإصلاح السياسي ظهور تنظيمات الجديدة - فاعلين اجتماعيين جدد، قوى سياسية جديدة -، هذا الظهور بالنسبة إلى دولة هو خارج نطاق «الاعتراف» أوّلا، وهي - الدولة أيضا - غير مؤهلة للاقتناع بها والتعامل معها بجدية وقراءتها باعتبارها مكونا رئيسيا، وتاريخيا لم تفشل التجارب السياسية إلاّ حين كانت تتعمد الإبقاء على مستويات الفهم السياسي قاصرة عن احتواء الفاعلين الاجتماعيين الجدد والاعتراف بأدوارهم الجديدة التي يلعبونها. واقع الحال، أنّ المجتمعات لا تتنبه إلى هذه الجماعات وهو ما يجعلها غافلة - في الأجل البعيد - عما قد تلعبه من أدوار، وما قد تحدثه من إحداثيات سياسية جديدة.

ولكن، ما هذه الجماعات الجديدة؟ وأيتها استطاعت الحصول على حصة سياسية؟ وأيتها لم تستطع ذلك حتى اليوم؟ وما الجماعات التاريخية التي قامت هذه الجماعات الجديدة بمزاحمتها وسحب بساط التمثيل السياسي من تحت أرجلها؟ وما حقيقة الصراع الدائر في البحرين في سياق هذه الصورة تحديدا؟

الدولة اليوم في العام 2008 ليست ما كانت عليه قبل العام 2001. فثمة الكثير من المتغيرات التي بات الشارع البحريني يعيشها. قد لا يعطي هذا الملف أكثر من مكاشفات لواقع مستتر، إلا أن هذه المكاشفات والحقائق هي في حد ذاتها طريق مفتوح نحو المزيد من الفاعلية في دعم المشروع الإصلاحي وتحديد الكثير من الإطارات التي لابدّ من المرور من خلالها بوضوح.

يذهب عالم الاجتماع الأميركي صمويل هتنتغتون إلى أنّ أية عملية إصلاح اجتماعي تحتاج فيما تحتاج إلى مركزية محددة، مهمتها أنْ ترعى عملية التحديث وأنْ تتحكم بها. فحين يعمد مجتمع بيروقراطي ما، إلى خيار التحديث في مؤسساته الكلاسيكية المتمترسة بالنظم الإقطاعية، فإنه غالبا ما تكون «المركزية» في الحكم، الخيار الأنجع على المدى القريب.

ويصف هنتنغتون خيار الاتجاه نحو النظام «الملكي» بالنظام «الأمثل» في خيار التحديث، شريطة أنْ يقترن بفصل السلطات عن بعضها بعضا، وأن يحقق مجموعة من الشروط العامّة التي تعتبر تأسيسية وأساسية لأي نظام اجتماعي متطوّر، وديمقراطي.

كان نزوح البحرين نحو خيار «الملكية الدستورية» نزوحا صائبا في هذا السياق تحديدا، إذ يبدو استثمار ماهية الإنتاج السياسي (أو فلنسميه القفز السياسي) للنظام الملكي الأكثر عقلانية ونضوجا طريقا أولى نحو الوصول إلى حكم مدني، يضمن فيما يضمن، للعائلة «المالكة» اعتباراتها التاريخية، وخصوصا أنّ المركزية الملكية هذه، تبدو إجرائيا الخيار الأمثل في ضمان الخيار التحديثي والتطويري من دون عوائق بيروقراطية قد تتسبب في إنهاك هذا الخيار، أو حتى تقويضه.

النشوء الأوّل للتجربة كان سلسا، وكان العام الأوّل من المشروع الإصلاحي لجلالة الملك عاما سريعا على البحرينيين كافة. الكثير من القوى السياسية المعارضة العائدة إلى أرض الوطن دخلت في مراحل إعادة تنظيم صفوفها في الداخل، ونشأت في هذا السياق الكثير من التقاطعات التي لابدّ من الرجوع إليها تفصيليا لاحقا.

لم يكن البحرينيون في هذا التوقيت تحديدا مُدركين لضرورة إعادة قراءة المشهد السياسي في البحرين من جديد. ووصولا إلى العام 2008 نجد أنّ طرفي العملية السياسية (السلطة/ المعارضة) متورطان في نطاقين اثنين.

النطاق الأوّل كلاسيكي ومتوقع، وهو مجمل التخالفات السياسية بين السلطة والمعارضة على حد سواء، وهو نطاق لا يحمل جديدا يُذكر، فمهمّة السلطة أنْ تحافظ - قدر استطاعتها- على ما تملك، ومهمة المعارضة أنْ تحاول الخروج بتنازلات من ملف إلى آخر... أمّا النطاق الثاني الذي لا يعتبر اعتياديا؛ فهو صراع السلطة ضد السلطة نفسها، وصراع المعارضة ضد المعارضة. هو صراع «الوفاق» الأصولية ضد «الوفاق» التكنوقراطية، وصراع «الوفاق» ضد حركة «حق» من جهة. وصراع «التيار الليبرالي» من فئة «الموالاة» ضد «الإخوان المسلمين» بوصفهم اليد الأولى للسلطة اليوم، وصراع «الإخوان المسلمين» ضد «السلف» داخل مؤسسة السلطة نفسها.

الذي لا يمكن أنْ نهمله مع هذه الملاحظات كلها هو أنّ المشروع الإصلاحي استطاع تجاوز الكثير من التحديات التي واجهته، وبما يشمل نجاحه في تقويض خطورة الإشكال الدستوري الذي تمترست المعارضة عنده لأربع سنوات مضت، فعلى رغم الجدل الواسع، وقرار المقاطعة لانتخابات 2002 فإنّ ذلك كلّه انطوى مع مشاركة المعارضة في انتخابات 2006 التي برهنت - شاء من شاء وأبى ذلك مَنْ أبى - أنّ الغالبية البحرينية مازالت تؤمن بخيار المشاركة السياسية ودعم المشروع الإصلاحي، على رغم أنّ الفضيحة السياسية - «التقرير المثير» - كانت لاتزال ساخنة.

يقول صمويل هنتنغتون أيضا، «تخلق العصرنة فئات اجتماعية جديدة، ووعيا اجتماعيا وسياسيا جديدا عند الفئات القديمة. الملكية البيروقراطية قادرة فعلا على استيعاب الأفراد، وأكثر من أي نظام سياسي تقليدي آخر، فهي توفر قنوات التحريك الاجتماعي للأذكياء والبارعين. لكن التحريك الفردي يصطدم بالمشاركة الجماعية. إنّ تراتب السلطة ومركزيتها التي تجعل من السهل على الملك استيعاب الأفراد، تخلق أيضا العوائق أمام امتداد السلطة بالقدر الكافي لاستيعاب الجماعات».

في البدء، وفي هذا السياق، لابدّ من ذكر النقاط التأسيسية الآتية:

أوّلاَ: لابدّ من ملاحظة أنّ القوى السياسية المنطوية في مؤسسة «السلطة» التي كانت تمثل مركز السلطة في البحرين لم تعد في مكاناتها- مواقع سلطتها التاريخية. واقع الأمر أنني في مقالات سابقة كنت أصف ذلك التبديل( التغيير) التعديل بمثابة «المزاج الجديد» للدولة، إلا أنني اليوم أعتقد أن تغيير «المراكز» الذي تم في مؤسسة السلطة عبر استبدال الطبقة الليبرالية من فئة «الموالاة» - المهمّشة حاليا - بالطبقة الإسلامية السنية (الإخوان المسلمين/ الأصالة) لم يكن بمزاج جديد للدولة، بالقدر الذي كان في حقيقته نتيجة حالة من الظهور الجديد لقوى «موالاة» جديدة، وهو ما تم من دون أنْ يكون بالضرورة من صناعة السلطة نفسها أو حتى بموافقتها.

نشأت داخل مؤسسة السلطة اليوم جماعات جديدة استطاعت أنْ تكون لها مساحاتها التي أخذتها طواعية في البدء، وزاحمت فيها حديثا جماعات أخرى كان حضورها تاريخيا. ولابدّ من أن ندرك اليوم، أن تصارع هذه القوى فيما بينها ما هو إلاّ نتاج تزاحم هذه القوى على مساحات التحكّم والسلطة والنفوذ داخل مؤسسة السلطة نفسها.

كان الليبراليون من فئة «الموالاة» - يتمثل حضورهم السياسي رسميا في جمعية «الميثاق» - الباب الأقصر/ الأسهل أمام حركات «السلف» و»الإخوان المسلمين» كي تأخذ مساحاتها الجديدة في العملية السياسية في البحرين.

«الإخوان المسلمون» و»السلفيون» تسلحوا أمام القوى «الليبرالية الموالية» بالجماهيرية التي تمتلكها مؤسسات الدين أوّلا، هذه الجماهيرية نمت وترعرعت وكبرت بوضوح بعد لعبة استيراد الثنائية الطائفية وتفعيلها. وثانيا، استعانت هذه القوى بالقدرة المالية للجماعات الإسلامية (تابعوا نمو سوق المصارف الإسلامية في البحرين منذ العام 2001، وتابعوا أيضا، حجم الاستثمارات المالية لها ودلالات هذه الاستثمارات وتأثيراتها الاقتصادية والسياسية).

استطاعت القوى الجديدة في مؤسسة السلطة أنْ تضع أرجلها داخل العملية السياسية، وكانت انتخابات 2006 الدلالة الأكبر على أنّ السلطة باتت تعتمد على هذه القوى السياسية الجديدة قبالة المعارضة البحرينية التي حاولت السلطة أنْ تضعها دائما وأبدا في زاوية ضيّقة، باعتبارها معارضة أصولية «شيعية» صرفة.

خلال العامين الماضيين حاولت القوى «الليبرالية» من فئة «الموالاة» توضيح موقفها المستاء من هذا التهميش، إلا أنّ شيئا لم يتغيّر، وأصبح واضحا للعيان أنّ هذه القوى أصبحت خارج اللعبة السياسية ماخلا بعض الأسماء التي لا يزيد توظيفها السياسي في فاعليته وماهيته على ما كان يعنيه ويمثله تعيين مسئول أو وزير «شيعي» في الحكومة، إبّان الحركة المطلبية في التسعينيات.

ثانيا: لا يبدو أنّ السلطة تدرك ذلك المعنى الحقيقي من أنّ جماعات موالاة جديدة قد نشأت وأصبحت جزءا جديدا منها، وهي لم تدرك أيضا أنّ هذه الجماعات تختلف أمزجتها، وأهدافها، وتطلعاتها عمّا كانت عليه الطبقة الليبرالية. الأكثر أهمية من هذا وذاك، أنّ السلطة لم تدرك خطورة أنْ تواجه معارضة ذات غالبية شيعية بقوى أصولية سنية. أما نتاج هذا الخطأ وهذا التورّط هو ما نراه اليوم من انزياح طائفي واضح لمجمل العملية السياسية في البحرين.

السلطة أيضا، حين تدخلت في سباق هذه الجماعات السياسية الجديدة التي لا تعطيها مساحات المؤسسات السياسية في البحرين المساحة الكافية للحضور، لم تدرك حجم ضريبة خسارة جزء لا يُستهان به من مؤيديها.

تدخلت السلطة لتعطي جماعات «الإخوان» و»السلف» المساحة التي تحتاجان إليها. هذا التدخل كان من القوّة والوضوح ما جعله يُعتَبَرُ من قبلِ البعضِ السبب في تحوّل سلوكيات «الإخوان» خصوصا إلى ما يشبه «التغوّل» في البحرين عبر السيطرة على مفاصل الدولة ومناصبها الإدارية العليا.

هذا «التغوّل» اجتاح الجماعات التاريخية في السلطة، وقام بتحجيمها. بالإضافة إلى ذلك، تقوم هذه الجماعات الجديدة اليوم بلعب جميع الأدوار التي كانت تلك الجماعات تضطلع بها، سواء أعضاء مجلس نيابي أو وزراء أو حتى رؤساء تحرير وصحافيين. وهو ما جعل من بعض الجماعات التاريخية في الجسم السياسي للسلطة غير ممثلة ومهمّشة، أهمها على الأقل (الليبراليون من فئة الموالاة- القبائل- طبقة رجال الأعمال وكبار التجّار).

النتيجة الأكثر خطورة من كلّ هذا، هي أنّ السلطة ساهمت - متعمّدة أو جاهلة - بوضوح في أنْ تصنع بيدها وضعا طائفيا نزقا في البحرين. فهي وإنْ كانت بتلك المساحات قد ساهمت في صناعة حليف جديد لها - «الإخوان المسلمين» - إلا أنها في التوقيت نفسه حفزت الصراع الطائفي، الذي يعتبر أكثر خطورة على السلطة نفسها من أية صراعات سياسية كلاسيكية مع قوى المعارضة، أتاحت السلطة للوضع السياسي أنْ ينزح نزوحا طائفيا حتى أصبح المسرح السياسي في البحرين مشوشا وغير واضح في المجمل.

ثالثا: يضيف هنتنغتون في معرض دراسته لحال المجتمعات المقبلة على مشروعات الإصلاح «المشكلة في الأصل مشكلة الشرعية. شرعية الإصلاحات تستمد من سلطة الملك. لكن شرعية النظام السياسي على المدى البعيد تستمد من مشاركة أوسع من الفئات الاجتماعية: الانتخابات، المجالس البلدية، والأحزاب السياسية» التي يصفها بأنها «تنظم تلك المشاركة في المجتمعات الحديثة».

ويضيف «كلما ازداد النظام التقليدي عصرنة، تزداد الصعوبة لديه في التأقلم مع توسيع المشاركة، وهي النتيجة الحتمية للعصرنة».

تبدو عبارات على شاكلة أنّ «هذا المجلس النيابي لا يمثل أبناء البحرين كافة» أو «ليس هذا البرلمان الذي ناضل من أجله شعب البحرين» متسقة مع ما يذهب إليه هنتنغتون في دراسته.

لا يُوجد في البحرين جدال على خيار «الملكية الدستورية»، ولا جدال على أيّ من المضامين العليا في الدولة ذات الطابع الملكي الدستوري. الجدال يقع فيما يختص بالعملية الديمقراطية، والنظام السياسي نفسه. ولابدّ أن تفصل السلطة في مستوى فهمها للمسرح السياسي في البحرين بين الجدال في «الدستور» والجدال في «الملكية الدستورية». الجدال الأوّل «مشروع» والجدال الثاني لا أحد يتبناه أصلا، ماخلا بعض أطراف السلطة نفسها، الذين يروجون لذلك بغية تخويف الدولة لضمان بقائهم في مواقع القوّة التي يسيطرون عليها ويمسكون بها جيدا.

هذا الجدل الواسع هو جدل طبيعي بحسب هنتنغتون، إذ هو في الأساس صورة طبيعية للخلاف التأسيسي على الدستورية في النظام والشرعية. ونؤكد أن لا خلاف على «الملكية» لكن الخلاف في «الدستورية» فاعل وملحوظ، بل هو جدال صحي عاشته ومازالت تعيشه أقدم الديمقراطيات في العالم.

النيابي ... حاضنة الأخطاء القاتلة

ينتقد الأمين العام المساعد للمنظمة العربية لحقوق الإنسان محسن عوض الإصلاحات السياسية العربية بالاعتماد على خمسة اطلاقات عامّة، وهي:

أولا: أن معظمها فاقد للصلة مع الزمن، فبعضها يتحدّث عن عشر سنوات وآخر يتحدّث عن خمسة عشر عاما، وآخر يبدأ من نقطة انطلاق تحتاج دهرا حتى تتمشى مع تطلعات الرأي العام العربي.

ثانيا: أنّ بعضها ينطلق من منطق وصاية، فبعض الحكومات تحدثت عن جرعات يتحملها المجتمع حتى لا تحدث فوضى، وأخرى حذرت من أنّ الانتخابات يمكن أن تفضي إلى وصول أميين لا يعرفون القراءة والكتابة لمقاعد الهيئة التمثيلية، وأن الحكام سيكونون في خدمة شعبهم عندما يكون المجتمع مستعدا لهذه الخطوة!.

ثالثا: أن معظمها لم يمس القضايا الجوهرية، لم يرد واحد بوضع نهاية لقوانين الطوارئ، أو طرح توجه عام نحو مبدأ تداول السلطة، او إلغاء أشكال اقضاء الاستثنائي، او معالجة تضخم الأجهزة الأمنية التي حدت بإحداها إلى استبدال شعارها من «الشرطة في خدمة الشعب» إلى «الشعب والشرطة في خدمة القانون».

رابعا: مضت هذه الوعود والإصلاحات بمحاذاة المشروعات الدولية للإصلاح بأكثر من مراعاة احتياجات النهوض الفعلي واسبقيات الرأي العام، يظهر ذلك في السباق القائم لتطوير الخطاب الديني من مناهج التعليم لتنقيتها مما يسمّى التطرف الإسلامي مقابل التراخي في برامج الإصلاح السياسي.

خامسا وأخيرا، وهي الخاصية التي انطوت على مفارقة ظاهرة أخرى يمكن وصفها بأنها «إصلاح من دون إصلاحيين»، أو «اشتراكية من دون اشتراكيين».

لقد حمل المجلس النيابي في تجربته الثانية بعد إقرار الميثاق الكثير من الملفات التي وضعت المشروع الإصلاحي على المحك، إدعاءات المعارضة التي كانت تذهب إلى أنّ هذا المجلس النيابي الحالي عاجز عن تنفيذ أيّ اصلاحات سياسية او اقتصادية حقيقية تأكّدت وأصبحت واقعا / عائقا أمام تطوّر التجربة الإصلاحية.

المعارضة التي قررت المشاركة والدخول للتجربة السياسية في المجلس النيابي قدمت الكثير من التنازلات التي رافقت التنازل في الملف الدستوري، في مقدّمتها القبول بتوزيع الدوائر الانتخابية الذي كان مشروعا طائفيا فاقعا أكثر من كونه توزيعا تمثيليا لأبناء البحرين داخل المجلس. الوفاق التي استفردت بالتمثيل النيابي للمعارضة عبر تحشيدها الديني للجماهير تسببت في أن تكتمل مع رص الدولة لحلفائها وأصدقائها الإسلاميين، عقدة الطائفية التي صيّرت المجلس النيابي حلقة من الصراع الطائفي الذي استنفذ الكثير من الوقت لتصفية حسابات طائفية بين النوّاب والوزراء على حد سواء.

لقد فعلت الحكومة أدوار أصدقائها الجدد الذين أجادوا إغلاق الطرق أمام المعارضة في أنْ تخرج بغنيمة من المشاركة، وقبالة ذلك في الشارع، ازدادت حدة الخطابات التصعيدية في المعارضة كرد منطقي ومتوقع، وزادت مع حدة الخطاب حالات الفلتان الأمني الذي أودى بحياة اثنين.

الملفات التي حملتها الدولة على ظهرها من التسعينات دون أن تسعى لحلحلتها، وعلى رأسها ملف التمييز الطائفي، ساهمت أيضا في أن تكون العملية السياسية في المجلس النيابي خارجة أشبه بالمعطلة.

لقد وقعت التجربة الإصلاحية في البحرين في بعض المحاذير التي ذكرها الأمين العام المساعد للمنظمة العربية لحقوق الإنسان أعلاه، أولى هذه المحاذير كان المضي قدما في سياسية تقطير الديمقراطية على البحرينيين. وفي الحقيقة، أنّ نمو التجربة الإصلاحية قد توقف منذ مدة.

ثاني هذه المحاذير، هو أنّ الدولة التي ذهبت نحو خيار الإصلاح السياسي والتجديد في هياكل الدولة لم تستبدل صفها الأوّل بصفوف من الإصلاحيين إلا فيما ندر من المواقع، بل أبقت على الكثير من العقليات التي لا يمكنها أنْ تعيش في أجواء ديمقراطية أو إصلاحية، فكان الإصلاح في البحرين من دون إصلاحيين، وفقدت العملية الإصلاحية أحد أهم الروافد التي كان من الضروري أن تستفيد منه بطريقة أو بأخرى.

ثالث المعضلات أنّ المشروع الإصلاحي تغافل عن حلحلة الكثير من الملفات التي لا تزال عالقة مثل: التمييز الطائفي الذي تعزز حضوره عقب التقرير المثير للجدل الذي ثلم من المشروع الإصلاحي بقوّة، وكان التعامل السلبي للدولة مع هذا الملف وإكتفائها بنفي ما ورد فيه، أحد أهم الأسباب في انكسار حجب الثقة بين الدولة من جهة، وبين المعارضة وشارعها من جهة أخرى.

على شفا حفرة

تبدو الطرق ضيّقة بالفعل، والخيارات قليلة، والوقت الذي يمضي بسرعة على المجلس النيابي من دون إنجازات يستطيع الشارع أن يثق بها، يؤكّد أن الوضع في البحرين خطير، وأنّ الجميع مطالبون بإعادة العملية السياسية لمسارها الصحيح، وفي خضم هذا القلق المتزايد في جميع الأوساط، يبدو أنّ زمام المبادرة بيد الدولة التي تستطيع أنْ تعيد جميع الأطراف إلى حاضنة المشروع الإصلاحي الذي بدأه جلالة الملك مطلع الألفية الجديدة.

لقد تعّرض المشروع الإصلاحي لجلالة الملك للكثير من الاختبارات الصعبة التي استطاع تجاوزها، لا يزال فضاء البحرية في البحرين مصونا، ولا تزال آفاق الحل مفتوحة باستثناء أن تستمر وتيرة تسارع الأحداث في المجلس النيابي بعد هدنة الصيف؛ لتنتهي هذه التجربة بالفشل، وهو ما لم يمكن معالجته بانتخابات جديدة، خصوصا إنّ كانت الأطراف حينها قد انتهت لخيارات جديدة لا يستطيع أحد توقعها اليوم. أخيرا، إنّ البحرين التي تبدو على شفا حفرة من النار تحتاج إلى مَنْ ينقذها، فمَنْ يتقدّم لذلك؟

العدد 2109 - السبت 14 يونيو 2008م الموافق 09 جمادى الآخرة 1429هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً