احتلّ «الشرق الأوسط الكبير» أولوية في برنامج جولة الرئيس الأميركي جورج بوش الوداعية التي يقوم بها في أوروبا. فهذه المنطقة الحيوية والاستراتيجية والغنية بالنفط شكّلت مركز اهتمام الإدارة الجمهورية الحالية خلال السنوات الثماني الماضية إلى درجة أهملت أهمية الملفات الأخرى في العالم.
اعتبرت إدارة بوش منذ وقوع هجمات 11 سبتمبر/ أيلول أنّ مَنْ يسيطر على «الشرق الأوسط الكبير» ينجح في السيطرة على العالم. فالمنطقة تعتبر نقطة فصل ووصل بين أوروبا وآسيا (أوراسيا) وتقع في وسط خطوط المواصلات والاتصالات التجارية والإمدادات النفطية. وهي في هذا الإطار الاستراتيجي تشكل قوّة قابضة جغرافيا، فمَنْ يقبض عليها ينجح في التحكم بمفاتيح النفط والثروات الطبيعية والمعدنية ويصبح في موقع الطرف الأقوى في إدارة اللعبة الدولية.
هذه الرؤية الاستراتيجية المستقبلية صنعتها إدارة اعتمدت على تسويق منتوجات مؤسسات التصنيع الحربي وشركات الطاقة وأسواق المال انطلاقا من أيديولوجية انقلابية تأسست على نزعة هجومية قادتها عصابة «المحافظين الجدد».
بداية نجحت أيديولوجية «المحافظين الجدد» في توليد تيار عنيف مستخدمة «هجمات سبتمبر» واسطة للهجوم على منطقة شديدة التعقيد في تركيبها الديموغرافي وتضاريسها الجغرافية وتكوينها الثقافي وتاريخها الحضاري. وبسبب النزعة الأيديولوجية للإدارة تعاملت واشنطن بخفة مع تشعبات «الشرق الأوسط الكبير» ودخلت في مغامرات عسكرية غير محسوبة سياسيا. فالتيار الذي قاد الإدارة وجد في ضعف المنطقة (تفكك دولها) فرصة للسيطرة ورأى أنّ القوّة تشكل وسيلة للتغيير وإعادة إنتاج الدول وهيكلة العلاقات الأهلية ضمن رؤية مخالفة للخريطة السياسية القائمة حاليا.
الاستخفاف بالمنظومة المتوارثة والمستقرة تقليديا أدّى إلى السقوط من الأعلى على أرض الواقع. فالنجاح في تسجيل فوز عسكري سريع لا يعني أنّ الإدارة توصّلت ميدانيا إلى صنع انتصار سياسي. فالفوز يمكن أنْ يقوّض عسكريا دويلات قائمة وأنظمة مستبدة إلا أنه لا يستطيع أنْ يعيد تركيب الدول والأنظمة وفق منظومة علاقات «مستوردة» من الخارج. فالواقع الاجتماعي/ التاريخي يفرض في النهاية شروطه الثقافية/ الحضارية ويلعب دوره في إعادة تأسيس علاقات «موروثة» ومصنوعة محليا.
القوّة العسكرية مهما بلغت من التطوّر التقني في جبروتها تصبح محدودة التأثير في مرحلة التعامل الواقعي مع البشر. وهذا ما اصطدمت به الآلة العسكرية في أفغانستان، فهي فازت ونجحت في إسقاط حكم «طالبان» واختارت رجلها وشحنته بالطائرة ونصبته رئيسا على البلاد. إلا أنّ الواقع الأفغاني أعاد توليد طاقاته البشرية الكامنة وأخذ بقذفها في وجه الاحتلال ودفعها باتجاه تشكيل علاقات سياسية تتحكّم القبائل في إدارتها وتوجيهها. وفي العراق تكرر المشهد حين فازت الآلة الحربية عسكريا وقوّضت الدولة المركزية وأسقطت نظام الحكم وشطبت بلاد الرافدين من المعادلة العربية ودفعت العلاقات الأهلية بالخروج من مرحلة التساكن إلى مرحلة التصادم والتشطير المذهبي والطائفي والمناطقي والأقوامي. والآنَ بدأت إدارة بوش تراجع حساباتها وتعيد قراءة الواقع في سياق آخر لا صلة له بكلّ تلك التنظيرات الأيديولوجية التي أعلن عنها بعد سقوط بغداد وغزو العراق. فالأرض أنتجت قواها البشرية وأخرجتهم من تضاعيف التاريخ وفضاءات الجغرافيا والثقافات الموروثة وبدأت بتأسيس «نماذج» لا تتجانس مع تلك التصورات التي رسمت معالمها هيئات أكاديمية في الجامعات والأجهزة الأميركية.
إعادة قراءة
جولة بوش الوداعية على أوروبا تشكّل مناسبة لإعادة قراءة تجربة تصادمية كان بإمكان واشنطن تجنب وقوعها لو تعاملت بواقعية مع منطقة جغرافية وعرة في تضاريسها الطبيعية والبشرية وحسّاسة في تكوينها الحضاري ورؤيتها الثقافية. فالإدارة الآنَ تدفع ثمن الاستخفاف بالإسلام ودوره التاريخي وموقعه الخاص في إدارة خطوط التجارة القديمة وإشرافه التقليدي على «طريق الحرير» الذي يربط آسيا بأوروبا.
ملفات «الشرق الأوسط الكبير» احتلّت أولوية في جولة بوش الوداعية إذ استهدفت ترسيم خطوط المشهد الميداني الذي استقرت عليه المنطقة في السنوات الأخيرة. فالرئيس الأميركي يرفض الاعتذار ويُعاند الفشل ولكنه بدأ يعترف بوجود «خطأ ما» ساهم في توليد حدود تتقاطع في داخلها مجموعة حروب صغيرة تهدد استقرار منطقة حيوية استراتيجيا وغنية بالثروات. أفغانستان مثلا معرّضة للانهيار ولذلك سارعت الدول المانحة في «مؤتمر باريس» إلى تقديم معونات وصلت موازنتها النظرية إلى 20 مليار دولار. والمعونات التي توافقت الدول المانحة على إقرارها ضرورية لوقف الانهيار ولكنها ليست كافية لإعادة بناء نموذج يلبي طموحات الغرب في شقيه الأوروبي والأميركي. فالواقع الأفغاني ليس جاهزا في بنيته التاريخية والاجتماعية لتشكيل صورة تتعارض في تكوينها الثقافي مع هويته الحضارية.
المشهد العراقي ليس بعيدا في تطوراته عن ذاك الذي استقر نسبيا في أفغانستان. فالإدارة الآنَ تبحث عن مخرج بالتعاون مع حكومة محلية أنتجها الاحتلال. والمخرج الذي تبحث عنه إدارة واشنطن في شهورها المتبقية يتلخص في توقيع معاهدة أمنية تضمن لها تموضعها العسكري لفترة زمنية معقولة تسمح لقواتها بالانسحاب التدريجي في مرحلة لاحقة.
هذا الفشل في شقيه الأفغاني والعراقي لا يعني أنّ الاستراتيجية الأميركية سقطت نهائيا. فالولايات المتحدة لاتزال القوّة الأولى القادرة على كسر المعادلات وتحطيمها وهي نجحت عمليا في تقويض دول قائمة وتفجير علاقات أهلية وإعادة هيكلة دويلات قبلية في أفغانستان ومذهبية وطائفية وأقوامية في بلاد الرافدين. ومثل هذه القوّة العسكرية التي تستطيع بعثرة التوازنات ليست بالضرورة قادرة على إعادة بناء توازنات وفق الرؤية التي وضعت تصوراتها في واشنطن. فالقوانين تخضع في نهاية الأمر إلى آليات الواقع وحراك البشر على الأرض. والناس في أفغانستان والعراق يخضعون لعلاقات سياسية لاتزال في طور اجتماع بشري (عمراني) سابق لنماذج دول تم تصنيعها في أجهزة ومؤسسات وأكاديميات لا تمتلك المعارف والخبرات الكافية للتعامل مع شعوب غير قادرة على التكيّف بسهولة مع منظومات أنتجتها أيديولوجيات أوروبية وأميركية.
فشل إدارة بوش في تشكيل «نماذج» للتسويق والتصدير لا يعني أنّ الاستراتيجية الأميركية في «الشرق الأوسط الكبير» انهارت بالكامل. حتى الآنَ لاتزال واشنطن تفرض سقفها السياسي على مختلف الدول الممتدة على طول قوس الأزمات من أفغانستان إلى فلسطين، وهي تحاول أنْ تتعامل بواقعية مع عقبات بعد تعثرها الميداني في إلغاء القوى الدولية المنافسة وتهميش مصالح قوى إقليمية تمتلك تأثيرات في مجالاتها الحيوية.
وداع بوش لدول «الشرق الأوسط الكبير» اقترب من نهاياته الزمنية... إلاّ أن الكوارث البشرية والإنسانية والسياسية التي خلّفها في منطقة مخزونة بثقافة العنف المذهبي والطائفي تحتاج إلى حقب لإعادة تنظيمها وترتيبها واحتواء تداعياتها في وقت لاتزال الاستراتيجية الأميركية هي القوّة المهيمنة في دائرة تعتبر حيوية لاقتصادات العالم وخصوصا لتلك الدول الصاعدة والطامحة في جغرافية «أوراسيا».
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2108 - الجمعة 13 يونيو 2008م الموافق 08 جمادى الآخرة 1429هـ